الدنيا

الدنيا

هل تعرف ـ يا بني ـ السر الذي جعل أكثر الخلق يتثاقلون إلى الدنيا، ويضيعون طاقاتهم كلها في سبيلها.. إنه سبب بسيط، لكنه مع ذلك ضروري، لا تكتمل حكمة الحكيم من دونه..

إنه الغفلة عن كونها دنيا.. فهم يسمونها حياة فقط.. ولا يصفونها بكونها حياة دنيا.. ويتصورون لذلك أنها البداية والنهاية.. وأنها الحياة الوحيدة المتاحة لهم.. ولذلك يتنافسون فيها، ويتصارعون من أجل متاعها.. ويحاولون كل جهدهم أن يملأوا بطونهم من شهواتها التي لا تنتهي.

وهم في ذلك يشبهون الطفل الصغير الذي يختصر الحياة في لعبه؛ فيشغل كل وقته بها، وقد يصارع كل شيء من أجلها.. وقد تعرض عليه الكنوز في سبيل أن يبيعها، فيرفض ذلك، لأنه يتوهم أن لعبه أغلى من كل شيء.

وهكذا كل من تراهم مستغرقين في الدنيا، ويتصارعون من أجل متاعها الزائل.. إنهم لا يختلفون كثيرا عن ذلك الطفل الصغير، فعقولهم لا تختلف عن عقله، وإن بدا لهم أنهم كبار، وأن لهم من حدة الذهن والذكاء ما لا يملكه.

ولذلك تراهم يحنون إلى {الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14]، ويغفلون عن الصدقات والصلوات والأعمال الصالحات.. لتوهمهم أن في ذلك المتاع السعادة، وأن في تلك التكاليف المشقة.

مع أن تلك التكاليف تحتضن كل ألوان السعادة والكمال.. فلولاها ما تحقق الإنسان بحقيقته، ولا ترقى في سلم الكمالات الذي أتيح له.. ولا نال فضل ربه من الدرجات والحسنات التي لا يمكنه أن ينال سعادة الدنيا والآخرة من دونها.

لذلك كانت الشهوات عندهم أغلى من الحسنات.. مع أن جميع كنوز الدنيا ومتاعها ولهوها ولعبها لا يعدل حسنة واحدة.

ولذلك لم يختلفوا عن ذلك الطفل الصغير الذي يرفض أن يبيع لعبه بالأموال الكثيرة، لأنه لا يعرف قيمة الأموال بقدر معرفته بقيمة لعبه.. بل إن عقول أولئك أدنى من عقل ذلك الطفل الصغير؛ فالمسافة بين لعبه والأموال المعروضة عليه، وإن كانت كبيرة إلا أنه يمكن تقديرها، وتحديدها، وضبطها.. أما المسافة بين الشهوات والحسنات، فلا يمكن ضبطها ولا تحديدها بأي مقياس من المقاييس..

وهذه المعرفة ـ يا بني ـ ليست معرفة علمية فقط.. بل إن لها آثارها الكثيرة في الحياة جميعا.. بل لا يمكن أن يكون للحياة أي طعم دون معرفة كونها مجرد بداية، ومجرد حياة دنيا.

إن هذا يهون من شأنها كثيرا، ويجعل التعامل معها سهلا يسيرا.. وذلك يشبه من جُند للخدمة العسكرية الإلزامية؛ فهو قد يوضع في بعض المحال الصعبة، ويدرب بالتدريبات الشاقة، لكنه مع ذلك لا يصيبه الألم الكبير، لأنه يعلم أنها مجرد مرحلة محدودة، وسيتجاوزها عن قريب، لتعود له حريته، وحياته الطبيعية.. بخلاف من كان يرى أن بدايته فيها، ونهايته عندها.

ولذلك كان اعتقاد كون الدنيا مجرد حياة دنيا وحده كافيا للتهوين من شأنها، وتقبل الاختبارات التي توضع للإنسان فيها.

وهي نعمة عظمى لا يجدها أولئك الغافلون الذين ينهارون لأدنى شيء يقعون فيه، لأنهم يتوهمون أن في ذلك حتفهم، ونهايتهم المحتومة.

لا تتوقف آثار هذه المعرفة على هذا الجزاء العظيم فقط.. بل إن لها آثارها الكثيرة في التربية والترقية والتهذيب والتصفية.. فالذي يعتقد أن هذه الحياة مجرد حياة دنيا لن يتكالب عليها، ولن يصارع من أجلها، ولن يضحي بأخلاقه وقيمه في سبيلها.. ولن يضحي بآخرته لأجل متاعها الزائل.

ولذلك قال تعالى ـ بعد ذكره لمتاع الحياة الدنيا ـ : {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 14، 15]

وهذه المعرفة ـ يا بني ـ هي التي تحمي المجتمعات من التفكك، وتحمي الدول من الصراع، لأن الصراع لا يكون إلا بين من ضاقت عليهم الحياة، فاختصروها في الدنيا.. ومثلهم في ذلك مثل من يتصارعون على قطع محدودة من الأرض، ولو أنه أتيح لهم منها ما لا حدود له، لما تصارعوا.

وهذه المعرفة ـ يا بني ـ هي التي تملأ الحياة بالسلام، وبسبب هذه المعرفة قال ابن آدم الصالح لأخيه الذي استولى عليه حب الدنيا: { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [المائدة: 28]

 وهذه المعرفة ـ يا بني ـ هي التي تحمي الفقير من أن يحسد الغني، وكيف يحسده، وهو يرى في أمواله ومتاعه ما يراه الكبار في لعب الأطفال.. بل إنه قد يسأل الله أن يحميه من الثراء الذي يصرفه عنه، أو الترف الذي يبعده عن حقيقته.

وهذه المعرفة ـ يا بني ـ هي التي تملأ قلوب أصحابها سعادة.. فهم ينظرون إلى الحياة بنظرة تفاؤل وأمل.. ويعتقدون أن المستقبل الذي ينتظرهم أجمل بكثير.. وأن ما فاتهم من متاع الدنيا لا يستحق أن يحزنوا عليه، لأن ما ينتظرهم أفضل منه.

وهذه المعرفة ـ يا بني ـ هي التي تملأ قلوب أصحابها بالهمة العالية، ليقتنصوا كل فرص الخير، ويقتنصوا معها كل ألوان الحسنات والدرجات التي هي أغلى من كل العملات الصعبة.. بل هي أصعب عملة في العالم.. ولذلك ترتقي نفوسهم وأرواحهم وعقولهم إلى المراتب العالية التي لا يمكن للمستغرقين في الحياة الدنيا أن يتوهموها، أو يصلوا إليها.

ولذلك ينتقل التنافس بين هؤلاء من التنافس على المتاع الزائل إلى التنافس على المتاع الحقيقي الذي ينتظر كل من تمكن من تهذيب نفسه وتطهيرها والترقي بها، قال تعالى في ذلك: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: 22 – 26]

هذه بعض ثمار معرفة كون هذه الحياة البسيطة التي نعيشها حياة دنيا.. فهي دنيا بكل معانيها.. فنعيمها محدود بسيط مختلط بالكدورات.. والزمان فيها قصير.. والإنسان فيها متردد بين القوة والضعف، والصحة والمرض، لا يكاد يهنأ به عيش، أو يستقر له حال.

ولذلك كان أسعد الناس فيها من عاش بين جنباتها بقلب مملوء بالتعلق بالآخرة.. فجسده في الدنيا، وقلبه في الملأ الأعلى، يقتنص المكارم والفضائل، ويعيش عالم الأنس الذي لا يمكن أن يظفر به من انشغل بلهو الدنيا وعبثها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *