الورع

الورع

لا .. ولن يكون ذلك أبدا.. فالورع يا بني ليس عقدة.. ولا مرضا نفسيا.. ولا تشددا.. ولا كل تلك الأوصاف التي ذكرها لك من يزعم أنه أستاذك..

فأنا مع احترامي له إلا أني لا أقبل هذا الموقف منه.. فالورع علامة حياة القلب الطاهر، وسمة النفس المطمئنة، وصفة الروح الزكية.. ولولا ذلك ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو سيد الطاهرين العابدين العارفين: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) ([1])

أتدري لم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا؟.. إن الاستغفار الكثير، ولأدنى شيء، علامة على شدة الورع والتقوى والطهارة.. فهو صلى الله عليه وآله وسلم كلما تطلع إلى أعماله، وقارنها بحق الله عليه شعر بالتقصير، وأن حق الله أعظم من أن يؤدى، فلذلك يسارع إلى الاستغفار، ويطلب العفو من ربه الذي لا يستطيع أن يؤدي حق عبوديته.

قارن هذه النفس الطاهرة والأدب العظيم ـ يا بني ـ بأولئك المغرورين المستكبرين الذين صرفهم النظر إلى أنفسهم وأعمالهم عن النظر إلى الحق وعظمته، ولذلك توهموا أعمالهم عظيمة، لأنهم قارنوها بأنفسهم، ولم يقارنوها بالله.

ولذلك لم يكن الورع عقدة نفسية، ولا دليلا على التشدد والتنطع، وإنما كان علامة على الأدب والطهارة والمعرفة..

فالأدب هو الذي يجعل الورع يحتاط في كل سلوك يقوم به خشية أن يكون فيه أذى أو مضرة لم يدركها.. لهذا تجده يسارع كل حين إلى طلب الصفح وإبراء الذمة خشية أن يكون قد وقع في التقصير، أو وقع منه ما لا يليق.

لقد فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، وهو سيد الورعين، فقد روي أنه عندما كان يقوم بتسوية صفوف أصحابه يوم أحد تهيئة لهم للمعركة، وكان في يده قدح يعدل به الصفوف، فمر ببعض الصحابة، وهو خارج من الصف، فطعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بطنه بالقدح، وقال: استو يا سواد، وكان اسمه سوادا، فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالعدل، فأقدني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في ذلك المحل ينتظر بدء المعركة: (استقد)، أي اقتص مني، فقال: يا رسول الله إنك طعنتني وليس علي قميص، فكشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بطنه، وقال: استقد، فاعتنقه سواد، وقبل بطنه، وقال: إنما أردت هذا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما حملك على هذا يا سواد؟ فقال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فلم آمن القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخير([2]).

هل رأيت يا بني آدابا أعظم من هذه الآداب؟.. وهل شاهدت في حياتك، وفي مثل هذه المواقف علاقات ممتلئة بالطيبة مثل هذه العلاقات؟

إنها لم تكن لتحصل لولا الورع .. فالورع هو الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الشديد الذي يحضر فيه لأرض المعركة التي تريد أن تستأصل الإسلام والمسلمين، يترك تسوية الصفوف، ثم يكشف عن بطنه ليقتص ذلك الجندي منه.

ألا ترى يا بني أن هذا السلوك سلوك حضاري، لا يقوم به إلا أصحاب النفوس المهذبة المتحضرة الذين يلتزمون بكل ما تلزمهم به الآداب، ثم يعتذرون بكل حياء عن أي تقصير يكون قد وقع منهم؟

ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثال الأدب الرفيع، لأنه كان سيد الورعين، وكان حساسا إلى درجة كبيرة، خشية أن يؤذي أي أحد من الناس، حتى أنه قال: (إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه) ([3])

والورع ـ يا بني ـ علامة الطهارة.. ألا ترى الثوب الأبيض النظيف كيف تظهر فيه أدنى الأوساخ.. بخلاف الثوب الممتلئ بالأوساخ، والذي كثرت عليه، فصار لا يُفرق بين الجديد منها والقديم.

أما الورع.. الذي يراعي قلبه كل حين، فيتفقد كل الفتن التي ترد عليه، والسهام التي تصوب نحوه، فينزعها، ويعالجها، ويعقم الموضع الذي أصيب فيه، فإن هذا حري بأن يكون طاهرا سليما، متحققا بإنسانيته في صورتها الكاملة.

والورع ـ يا بني ـ علامة المعرفة.. ذلك أن القلب هو المرصد الموجه لعالم الحقيقة، فإن كانت عدسته ملطخة ممتلئة بالضباب، امتنعت عليه الرؤية.. بل ربما تختلط عليه، فيرى المنكر معروفا، والمعروف منكرا.

لقد أشار الله تعالى إلى ذلك، وبين دور الذنوب صغيرها وكبيرها في تشكيل البقع الحائلة بين القلب والمعرفة الصحيحة، فقال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]

وقد فسره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت) ([4])

هل رأيت يا بني خطر الذنوب، فآثارها لا تقتصر على تلك الأوزار التي تؤخَّر عقوبتها للآخرة، بل إن من أخطر آثارها تلك العقوبات المرتبطة بالعاجل قبل الآجل، وأخطرها ذلك الران الذي يحول بين القلب وبين إدراك الحقائق أو التسليم لها.

ولذلك فإن أكثر المجادلين في الدين، أو المعترضين على الرسل، أو المحتالين على الشرائع، لم يدعهم إلى ذلك حجج قاطعة، ولا براهين ناصعة، وإنما دعاهم إليه تلك القاذورات التي طغت على قلوبهم؛ فمنعتهم من رؤية الحقائق بجمالها وطهارتها.

لا شك أنك تريد مني مثالا على ذلك.. ولك ذلك.. فلقمان لم يكن يربي ولده إلا بالأمثلة.. والأمثلة جند الله التي تنقذ عباده من الغموض والإشكال.

إن مثل ذلك يا بني مثل العسل الذي يوضع في وعاء مملوء بالقذارة والسموم، أو يخلط به.. حينها سيصبح العسل مسموما.. وقد يصبح مذاقه مرا.. والمشكلة ليست في العسل، ولكن في الوعاء الذي وضع فيه.. أو المواد التي خلطت به.

ولذلك ترى الحقائق واحدة.. لكن بعضهم يسلم لها، ويفرح بها، وتؤثر في سلوكه وأخلاقه، وحياته جميعا.. لكن منهم من تكون فتنة له.

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 124، 125]

وقد ضرب الله مثالا على ذلك بالماء الذي يتنزل على الأرض، لكن الوعاء المستقبل له هو الذي يحدد نوع النبات الذي ينبت به.. فالماء واحد، والثمار مختلفة.. قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]

لذلك كان الورع يا بني هو المنجل الذي تطهر به أرض نفسك من كل الحشائش الضارة التي تعتم عليها الرؤية، وتحول بينها وبين الترقي، أو تصرفها عن السير إلى الله.

والورع يا بني هو التقوى التي تجعل بينك وبين غضب الله آلاف الحواجز.. وهي التي تقي قلبك من أن يمتلئ بالكدورات التي تغمسه في مستنقعات الأهواء والرذيلة.

ولذلك كان علامة الكمال، لا علامة النقص.. فالناقص هو المستسلم لنفسه وأهوائه وشيطانه، والكامل هو الذي يواجه كل ذلك، ويقاومه.

ولست أقصد يا بني بالورع الوسوسة.. فهي مرض من الأمراض، أو هي ورع بارد لا قيمة له.. لأنها تنطلق من نفس مريضة تختصر الدين في بعض شرائعه ومظاهره وطقوسه..

وإنما الورع ذلك السلوك المرتبط بالعلم، فنحن نعبد الله بما شرع، لا بأهوائنا.. ولذلك إن رفع الله تعالى الحرج عنا في الطهارة، فرحنا نبالغ فيها كنا مناقضين لما طلب منا..


([1])  رواه مسلم (2702) (41) ، وأبو داود (1515)

([2])  معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: 3133.

([3])  البخاري (707) و (868) ، وأبو داود (789) ، وابن ماجه (991)

([4])  ابن ماجه (4244) ، والترمذي (3334) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة (418)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *