العزة

إياك يا بني أن تنخدع بتلك الدعاوى التي ينشرونها.. فالعزة لله وحده.. ولا عزة ولا كرامة ولا شرف ولا نبل إلا لمن عرف الله، وسلك الطريق إليه..
لقد ذكر الله تعالى ذلك بصيغة مؤكدة محكمة لا مجال لتأويلها أو التلاعب بألفاظها، فقد قال في كلماته المقدسة التي لا يعتريها التبديل والتغيير: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]
فالعزة مكرمة إلهية، وهي من تجليات اسم الله العزيز، ولا يهبها إلا لمن توفر فيه الإيمان واليقين والطهارة والصدق.. ولذلك رد على المنافقين الذين قالوا: { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } [المنافقون: 8] بقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [المنافقون: 8]
فالعزة لله وحده، وهي في خزائنه التي لا يملك مفاتيحها غيره، وهو قد كتبها لمن انتسب إليه بقدر انتسابه.. فيستحيل على من عارض الله، أو تحداه، أو جحده، أو غفل عنه، أن ينال هذا الوسام الرفيع.
ولذلك يكتشف كل من طلب العزة من غير طَرقه لأبواب الله أن الذلة مصيره ونهايته المحتومة.. فمن عز بغير الله ذل.. ومن استنصر بغير الله هزم.
لقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم عند حديثه عن السحرة، وكيف كانوا يستعزون بفرعون، ثم عرفوا أن فرعون أذل من أن يستعز به أحد.. فلجأوا إلى الله.. لقد قال تعالى يذكر قصتهم: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ } [الشعراء: 44]
لكن موسى عليه السلام الذي استند إلى عزة الله ألقى {عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [الشعراء: 45]، حينها عرف السحرة أن سند موسى عليه السلام أكبر من سندهم، فراحوا يجثون ساجدين، وهم يرددون: { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47، 48]
حاول فرعون حينها أن يستعمل بطشه الذي تعود أن يذل به رعيته، لكنه فوجئ بتلك الأنوف الشامخة، والجباه المرتفعة، والنفوس الأبية.. لقد قالوا جميعا، وبصوت واحد، وبعزة نادرة: {لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 50، 51]
وفي مقابل هذا، ينبئنا الله تعالى عن الذلة التي تنتظر كل من استند إلى عز غير عزه، فقد قال عن المنافقين: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138]، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [النساء: 139]
إن هذه الآية الكريمة تصف بدقة من ذكرتهم لي يا بني من أولئك الذين راحوا يحذفون الإيمان عند تقييمهم الإنسان.. فصار الملحد عندهم أفضل من المؤمن.. والغني أفضل من الفقير.. والمترف أفضل من الزاهد..
وصار تقييمهم للشعوب والدول على أساس ثرواتها وأموالها وأسلحتها وتطورها.. لا على أساس أخلاقها وقيمها.
وصار حلم أحدهم أن يظفر بالتأشيرة التي تنقله لتلك البلاد التي يراها عزيزة، ليصور نفسه في ساحاتها وشوارعها، ثم يرسل صوره لأهل بلده الذين يحتقرهم، وكأنه في الجنة، وهم في الجحيم.
لقد أخبر الله تعالى أن هذا الصنف من المنهزمين نفسيا، وأنهم وإن عزوا في ظاهرهم إلا أن باطنهم مملوء بالذلة والخضوع والهوان.. ولهذا يتوهمون أن الغلبة دائما لأهل الباطل.. وأن سوق أهل الحق لن تقوم أبدا.
وفي مقابل ذلك أثنى الله تعالى على الذين نالوا حظهم من العزة الإلهية، فقال عنهم، وهم في أشد أنواع البلاء: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]
وقد بين الله تعالى الجزاء الذي أعده لهم بسبب ركونهم إلى الله، فقال: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم} [آل عمران: 174]
ثم بين أن تلك الذلة التي تعتري أولئك الذين يخضعون أمام الأقوياء، وينحنون أمام المستكبرين ليست إلا أوهاما شيطانية، فقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 175]
ولذلك، فإن العزة ـ يا بني ـ لا تكون إلا لمن اقتنع بأن الله أكبر من كل شيء.. وردد ذلك بقلبه ولسانه.. ليمحو كل أدعياء الكبر والتعالي.. ويتحولوا أمامه إلى مجرد أصفار لا قيمة لها.. وهل يمكن لشيء أن يقوم أمام الله؟
لقد كان الإمام الحسين ينظر بهذه النظرة عندما وجد نفسه وحيدا إلا مع فئة قليلة من المؤمنين.. وقد دعي حينها إلى التسليم للطواغيت، لينال حظه من الدنيا، لكنه آثر البقاء على العهد.. واختار الله.. فأكسبه الله عز الأبد..
لقد قال يعبر عن نفسه والاختيارات التي وضعت بين يديه: (ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله، ونفوسٌ أبيّة وأنوفٌ حميّة مِنْ أنْ نؤثرَ طاعة اللئام على مصارع الكرام) ([1])
وقال مخاطبا أولئك الجبناء الذين قعدوا عن مواجهة الباطل، واستسلموا للدنيا وأهوائها: (إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، واستمرت جدا ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقا حقا، فاني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما، وإن الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون) ([2])
هذا هو سيد شباب أهل الجنة.. وهذا هو أسوة الصالحين الذين لا ترهبهم الجحافل ولا الجيوش ولا القوى العظمى، ولا القوى الصغرى.. ولا يخافون لومة لائم عند قولهم للحق، وصدعهم به.
وهذه العزة الحقيقية يا بني.. وكل من استعز بغيرها ذل.. فلذلك لا تنحني أمام المتكبرين.. ولا تذل نفسك للمترفين.. فإن ربك هو الأكبر.. ولن يزيدك تملقك وتذللك لهم إلا مهانة.. ولن يذيقوك بإهانتك لنفسك بين أيديهم إلا ألوان الخسف والذلة.
أما أولئك الذين يذكرون أنهم يتواضعون بذلك، فهم واهمون، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه) ([3])
وروي أن بعضهم سئل عن التواضع، فقال: (هو التكبر على المتكبرين)
وروي أن سليمان بن عبد الملك أتى طاووساً فلم يكلمه فقيل له في ذلك، فقال: (أردت أن يعلم أن في عباد الله من يستصغر ما يستعظم ذلك من نفسه)
وقال الشاعر معبرا عن هذا المعنى:
إذا تاه الصديق عليك كبراً … فته كبراً على ذاك الصديق
فإيجاب الحقوق لغير راعٍ … حقوقك رأس تضييع الحقوق
فاحذر يا بني أن تذل نفسك، أو تتوهم أن من كثر ماله، أو جاهه، أو سلطانه، أفضل منك.. فالفضل في عبادة الله وتقواه ومعرفته.. وليس في تلك الشؤون التي تزول بزوال الحياة الدنيا، بل قد تزول قبلها.
وإن شئت أن تذل نفسك لأحد، فاجعلها ذليلة أمام أولئك الطيبين الصادقين المتواضعين الذين لا تزيدك ذلتك لهم إلا عزة وكرامة وشرفا.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، ودعاك إليه، فقال في وصف المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]
فأنت حين تذل لهم تذل لربك.. لأنك لم تذل
لهم لذواتهم، وإنما لإيمانهم وتقواهم وصلاحهم، فلذلك كان تواضعك لهم، تواضعا وذلة
لله.. ومن ذل لله ملأه بالعزة.. ومن تواضع لله ملأه بالكرامة.
([1]) بحار الأنوار 83:45.
([2]) تاريخ الطبري 3: 307.
([3]) رواه البيهقي في الشعب المقاصد الحسنة (ص: 639)