الطهارة

الطهارة

يعجبني فيك يا بني حرصك على طهارتك.. فأنت منذ صغرك تلتزم بكل ما تستدعيه النظافة من سلوكات وآداب رفيعة.. وتلك سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان حريضا على نظافة بدنه وثيابه وفراشه وكل ما يرتبط به، وله في ذلك الأحاديث الكثيرة، والسنن العظيمة، فقد قال في الدعوة لطهارة الفم: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) ([1])

وقال في الدعوة للمحافظة على الوضوء، وفي كل الأوقات: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) ([2])، وقال: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة) ([3])

بل إنه اعتبر الوضوء شطرا وجزءا من أجزاء الإيمان، فقال: (الوضوء شطر الإيمان) ([4])

ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، بل دعا إلى تطهير البيئة والمحيط الذي يعيش فيه الإنسان، فقال: (إن الله تعالى طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود؛ فنظفوا أفنيتكم، ولا تشبهوا باليهود) ([5])، وقال: (طيبوا ساحاتكم، فإن أنتن الساحات ساحات اليهود) ([6])

وهكذا ترى القرآن الكريم يثني على الطهارة التي يتسم بها المؤمنون، فيقول في وصفهم: { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [التوبة: 108]

ويكفيك من هذه الآية الكريمة حب الله للمتطهرين.. وحب الله أعظم الهدايا، ولا جائزة يجازى عليها الإنسان مثل حب الله له.. وهي مقدمة لكل فضل، وباب لكل خير..

بل إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أول أيام البعثة بالحرص على طهارة ثيابه، وقرن ذلك بأوامر عظيمة من الدين، فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} [المدثر: 1 – 7]

اقرأ هذه الآيات، وتمعن فيها.. وستجد فيها أن الطهارة التي أمر بها الله تعالى ليست طهارة الثياب فقط، بل هي طهارة ترتبط بكل حقائق الإنسان ولطائفه.. فليس طاهرا من اكتفى بتطهير ثيابه، وترك عقله مملوءا بالجهل والدجل والخرافة.

وليس طاهرا من طهر ثيابه، وترك نفسه مملوءة بالحسد والحقد والكبرياء والغرور، وكل العقد النفسية.

وليس طاهرا من طهر ثيابه، وترك قلبه أسيرا في أيدي أهوائه وشهواته تقلبه كيف يشاء، وتجعله طريحا في مستنقعاتها الأسنة.

وليس طاهرا من طهر ثيابه، ثم ترك جوارح روحه ممتلئة بالقاذورات والنجاسات، التي تجعله منبعا للروائح الكريهة المنتنة.

فليس طاهرا من ترك لسانه يعبث في أعراض الناس، وينشر الإشاعات بينهم.. ولا من ترك لرجله حرية الحركة لتسير في كل ما يحلو للهوى دعوته إليه.. ولا من ترك ليده حرية البطش لتنفذ مآرب غضبه.

وهكذا.. فإن الطهارة الحقيقية ـ يا بني ـ هي التي تشمل كل شيء.. لا تلك التي تقتصر على تطهير الطلاء والقناع والزجاج الخارجي.. وتترك الحقيقة والباطن مملوءا بكل أنواع القذارة.

ولذلك ربط الله تعالى بين الدعوة لتطهير الثياب، والتطهير من الرجز.. ودعا إلى هجره واجتنابه.. ودعا إلى تكبير الله حتى تزاح تلك الخرافات التي تملأ العقل بالكدورة.. ودعا إلى الصبر حتى تتخلص النفس من آثار العجلة .. ودعا إلى عدم المن حتى لا يساء للعلاقات الاجتماعية، وتمتلئ بما يكدرها.

هذه هي النظرة القرآنية والإيمانية للطهارة.. فهي تنطلق من الجسد والبيوت، والأحياء والشوارع، لكنها لا تكتفي بها.. بل تنتقل إلى باطن الإنسان وحقيقته.. فتملأها بالطهارة والنظافة والجمال.

ولذلك فإن المعجبين بأولئك الذين ينظفون ثيابهم، أو يملؤون شوارعهم بأصناف الزينة، ويغفلون عن تلك الحانات والمراقص ونوادي الرذيلة التي تملأ تلك الأحياء، ينظرون بعين الدجال الواحدة.. فالطهارة مثل الأخلاق جميعا لا تنقسم، فمن طهر بعضه، وأعرض عن تطهير الباقي كان نجسا وقذرا.

تصور لو أنك دخلت بيت أحدهم، فوجدت غرفة الاستقبال طاهرة نظيفة.. لكنك عندما مررت على غيرها، شممت كل أنواع الروائح المنتنة، هل يمكنك بعد ذلك أن تصف صاحب البيت بالطهارة والنظافة؟

هكذا  الأمر ببيوتنا التي نسكنها.. وهي حقائقنا ولطائفنا.. فمن نظف جسده وثيابه، ثم ترك قلبه وعقله ونفسه أسيرة لتلك القاذورات الحاجبة عن الله .. كان حريا بأن يوصف بالنجاسة، حتى لو امتلأ ظاهره بالنظافة.

لقد ذكر القرآن الكريم ذلك، وصرح به، وأخبر أن كل ما يحول بين العقل ومعرفة الله نجاسة ورجس، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [التوبة: 28]، وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]، وقال: { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 125]

واعتبر أن كل المعاصي التي أمر الله باجتنابها، لم يأمر بذلك إلا بسبب كونها نجاسة ورجس وقذارة، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة: 90]

لذلك لا تكتفي يا بني بالنظر إلى الظواهر، فتعمى عن رؤية الحقيقة الكاملة.. بل انظر إلى الأشياء من جميع جهاتها.. وقل لأولئك المتنورين الذين ملأوا قلوبهم انبهارا بالشرق والغرب: لا تنظروا إلى تلك الشوارع النظيفة.. ولا إلى تلك الأجساد الطاهرة.. بل انظروا معها إلى تلك العقول الممتلئة بالشبهات، والمعرضة عن الحقيقة.. وانظروا إلى تلك النفوس التي كانت سببا في يوم من الأيام في الاستعمار والتسلط والأحقاد.. وانظروا إلى تلك الشوارع المملوءة بالصور الحاضة على الفواحش والمنكرات.. وانظروا إلى كل ما يملأ تلك الشوارع مما يغضب الله.

واعلم يا بني أن أكثر تلك الشوارع التي يدعو من يزعمون لأنفسهم التنوير إلى الاقتداء بها، لا تختلف عن شوارع قوم لوط، أولئك الذين وصفهم الله بالرجس والنجاسة، لأن عقولهم وقلوبهم ونفوسهم، كانت كذلك، ولذلك أنفوا من أن يتبعوا لوطا عليه السلام، ودافعهم لذلك هو ما عبروا عنه بقولهم: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]


([1])  رواه أحمد، والمروزي (108) و (110) ، وأبو يعلى (109) و (110)

([2])  رواه أحمد (37/ 61)، والبغوي (155)

([3])  رواه البخاري 11 / 97 ، ومسلم رقم (2710)

([4])  رواه مسلم رقم (223) ، والترمذي رقم (3512)

([5])  الترمذي (2799)

([6])  رواه الطبراني في الأوسط، كنز العمال (15/ 389)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *