التنوير

التنوير

إنهم واهمون يا بني، فلا هم تنويريون، ولا هم منوّرون.. بل هم قوم غارقون في الظلمات، وكل ما تراه حولهم من أضواء، وكل ما تمتلئ به مدنهم من مصابيح لن يشعل شمعة واحدة في قلوبهم.. والنور الذي لا يشع من القلب ظلام.. والمصابيح التي لا تقتبس نورها من مشكاة النبوة مجرد زجاج معتم مظلم، لا يتيح لأصحابه إلا تلك الرؤية التي توهمها المنافقون يوم القيامة، ثم أظلمت عليهم أحوج ما كانوا إليها.

لقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن الكريم، وبين لنا من خلاله حقيقة النور، وحقيقة الممسكين بمصابيحه، فقال: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]

إن هذه الآية الكريمة تلخص حقيقة النور، فهو ليس نابعا من داخل الإنسان، ولا ناشئا عن عقله وهواه.. وإنما هو هبة إلهية لأولئك الذين اجتهدوا صادقين في التماسه.. وكانت مشكاتهم ومصابيحهم جاهزة بتواضعها وأدبها للاقتباس من نور الله.. الذي لا نور في الكون غيره.

لقد قال تعالى يوضح هذه الحقيقة العظيمة التي تاه عنها أولئك الذين يدعون التنوير: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]

فالآية الكريمة توضح أن النور صفة إلهية، وأنه في خزائن الله وحده، وأنه الواهب الوحيد له.. ولذلك فإن من لم يتنور بنور الله، واستكبر أن يقتبس من تلك السرج المنيرة التي أرسلها الله لعباده ليشعلوا مصابيح الهداية في قلوبهم، لن يصلوا إلى شيء، وسيظلون غارقين في الظلمات.. فـ {مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]

ولذلك فإن أولئك التنويريين وإن أشعلوا كل مصابيح بيوتهم ومدنهم، إلا أنهم بغفلتهم عن إشعال مصابيح قلوبهم من مشكاة النبوة صاروا ظلاميين، وغارقين في الظلمات.. كما بين ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور: 39، 40]

لا تتوهم يا بني أنني أبالغ حين أذكر هذا.. أو أنني أدعو إلى التخلف، ونبذ كل تقدم علمي.. أو أقف ضد كل حضارة ورقي وتطور.. أنا لا أفعل ذلك.. وإنما أقف ضد استغلال النور والتنوير في ذلك كله.

فأولئك الواهمون يتصورون أنه لا يمكن أن نشعل مصابيح المدن إلا بعد إطفاء مصابيح القلوب.. أو يتوهمون أن مصابيح القلوب يمكنها أن تنير لهم من غير السرج الإلهية التي لا يمكن لأحد أن يبصر الحقائق من دونها.

لذلك كان ادعاؤهم للتنوير كذبا وزورا وخداعا.. فالله تعالى ما حرم علينا أن نضيء مصابيح مدننا، ولا حرم علينا السعي في الأرض، ولا حرم علينا كل مظاهر التقدم والتطور والرفاه المتناسب مع الإنسان.. وإنما حرم علينا السقوط في أوحال الهوى، والإعراض عن النبوة، والاستضاءة بمصابيح الشياطين.

لقد كان سليمان عليه السلام نبيا تنويريا.. كان قلبه يضيء بالهداية الإلهية، وكانت أخلاقه أخلاق الصديقين.. لكنه مع ذلك كان صاحب مدنية وحضارة لم تصل إليها أرقى حضارات من يدعون التنوير.. فالتنوير لا يجعلك تطفئ مصابيح مدينتك، وإنما يجعلك تشعل مصابيح قلبك.

وذو القرنين .. ذلك الحاكم الصالح .. تعلم كل العلوم، وأتقن كل الصنائع، وسار في الأرض، ليخلص الخلق من كدر العيش وضيقه، ويقف مع المستضعفين ضد الظالمين.. ولكنه لم يكن يهتدي في ذلك كله إلا بذلك النور الذي امتلأ به قلبه، فأبصر الحقائق كما هي لا كما تمليها عليه الشياطين.

وهكذا فإن كل الأنبياء والأولياء .. كان همهم الأكبر أن يشعلوا مصابيح القلوب بأنوار الهداية، فإذا اهتدت إلى الحقيقة، وتحققت بالإنسانية، واستنارت بنور الله.. كان لها أن تتبع سنن الله في تحقيق كل مظاهر الرفاه التي لم تنه الشريعة عنها.

وعدم وجود مظاهر الرفاه، أو تحققها في حياة النبي أو الولي، لا يعني أبدا أنه ليس تنويريا، ولا منورا، فقد وصف الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ليس نورا فقط، وإنما سراج للأنوار، فقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) } [الأحزاب: 45 – 47] مع أن البداوة كانت غالبة في ذلك الحين..

لكن أنوار القلوب والعقول التي لا يمكن لحضارة أن تقوم بدونها كانت كلها مقتبسة من ذلك السراج الذي لا يزال يضيء.. بل لن ينطفئ أبدا، كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [الصف: 8]، ثم عقب عليها بقوله: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [الصف: 9]

ولهذا، فإن من يستكبر على تلك السرج المنيرة، ويتوهم أنه يمكنه أن يصل إلى الحقائق من دونها، ثم يستعلي عندما يرى مصابيح مدينته مشتعلة، فإنه واهم، ولن يعيش إلا السراب.

ألا ترى يا بني أن كل الحروب التي حصلت في القرون الأخيرة قام بها تنويريون ودعاة تنوير.. ومثلها الاستعمار.. والاستكبار.. وكل مظاهر التمييز العنصري.. كلها برزت من لدن أولئك الذين توهموا أنهم الأفضل والأقدر والأقوى.. وقد وصل بهم عتوهم إلى إلغاء الله لتوهمهم أنهم قد استغنوا باختراعاتهم عنه.

لقد ذكر الله تعالى هؤلاء.. لكنه لم يسمهم تنويريين، وإنما سماهم طغاة، فقال: { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [العلق: 6، 7]

وكل أولئك التنويريين لا يجتمعون على شيء، كما يجتمعون على الشعور بالاستغناء عن الله.. بل إنهم يتصورون أن الحاجة لله قد زالت بعد أن وصل الإنسان بعقله إلى المصابيح الكهربائية التي توهموا أنها يمكن أن تلغي المصابيح الربانية.

هذه صفات التنويريين يا بني .. فاحذر منها، ومن الدجل المرتبط بها.. فإنك لن تصل إلى الله إلا بعد وصولك إلى أنواره.. ولن تصل إلى أنواره إلا من خلال تلك المصابيح والسرج المنيرة التي جعلها الله منابع للهداية، ومصادر لها.. ولا يمكن لأحد أن يقتبس نوره، وهو مستعل عليها، مستكبر على تعاليمها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *