الحرية

الحرية

ما أكثر أوهام الخلق في الحرية يا بني .. إنها السبب الأكبر في كل ما يحصل لحياتهم وحقائقهم ولطائفهم من مآس..

فإبليس لم يمتنع للسجود لآدم عليه السلام، ولم يتجرأ على مخالفة ربه، إلا طلبا لحريته التي بلغ به سعيه في الحصول عليها أن يستكبر على الله، ويأبى الخضوع له، ويتمرد على من طُلب منه أن يبدي له احترامه وتقديره، ويحييه بالتحية التي تليق به.

وفرعون عندما صاح قائلا:{ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] لم يكن دافعه لذلك إلا تلك الحرية التي شعر بها، وجعلته يحاول الخروج من كل الكون ونواميسه، لينشئ لنفسه كونا خاصا يكون هو إلهه.

وأقوام الأنبياء، والملأ الذين استكبروا منهم لم يتكبروا على تلك الجواهر المقدسة التي أرسلها الله لهم لهدايتهم إلا طلبا لتلك الحرية الوهمية المزيفة التي صورت لهم أن الانتساب لله، سيلغي انتسابهم لأنفسهم، وسيمنعهم من حرية التحرك وفق ما تقتضيه أهواؤهم ونفوسهم الأمارة بالسوء.

وسارتر ـ ذلك الذي يزعمون أنه حكيم، والذي حدثتني عن أنبائه ـ لم يتمرد على ربه إلا بعد أن شعر أن وجود الله يلغي وجوده، وأنه كي يتحرر يحتاج إلى أن يلغي الله من حياته.

وهكذا غيره ممن يسمونهم فلاسفة وحكماء وأصحاب فكر نيّر.. كلهم واهمون.. لأنهم تعلقوا بوساوس شيطانية زينت لهم التمرد، وسمته حرية.

وهم في ذلك مثل الرضيع الذي يعتقد أن اكتفاءه بالحليب الذي تدره رحمة أمه عليه، قيود تحد دون حريته في الغذاء.. فيتركها.. ويلقى كل أصناف البلاء بذلك.

وهذا المثل يا بني ليس بعيدا .. بل هو عين الحقيقة التي رآها العارفون رأي العين.. فالخلق جميعا ـ كما قال الحكماء ـ أطفال في حجر الحق([1]) .. والله ـ بكرمه ولطفه ـ يتعامل معهم بكل ألوان الحنان.. ويغدق عليهم كل ما ينفعهم من ألوان الفضل.. وإن حرمهم من شيء، فإنه لا يحرمهم منه إلا رحمة بهم، مثلما تفعل الأم عندما تحرم ولدها من الطعام الذي يضر بمعدته؛ فإن تمرد الولد عليها، وأكل ما يضره، طلبا لحريته، لم ينل من ذلك إلا الضرر لنفسه.

والخلق ـ يا بني ـ أطفال في مدرسة رب العالمين.. والله يسير بهم وبهممهم.. ويعلمهم من الاختبارات التي يضعهم فيها، كيف يرتقون إلى أعلى العليين، وكيف يخرجون من مستنقعات أسفل سافلين.. فإن هم تمردوا على تلك الاختبارات، وعصوا من أمروا بطاعته، وتجاوزوا حدود الله طلبا لحريتهم، لم ينالوا إلا ما يناله أولئك المشاغبون الذين لا ترضي نزواتهم إلا التمرد على أساتذتهم ومقرراتهم ودروسهم، ثم لا ينالون بعدها إلا الفشل .. ليس في مدارسهم فقط، وإنما في حياتهم جميعا.

والخلق ـ يا بني ـ مثل أولئك الأطفال الذين يحتاجون إلى رعاية خاصة، تحمي نفوسهم من العقد، وتلقي بهم في الحياة إلقاء جميلا.. فإن هم تمردوا على ذلك طلبا لحريتهم الوهمية، امتلأت نفوسهم بالعقد، وامتلأت حياتهم في مجتمعاتهم بالصراع.

والخلق ـ يا بني ـ مثل المرضى أمام الأطباء، فإن هم تمردوا على الأدوية التي أمروا بشربها، والحمية التي أمروا باستعمالهم، فإن الأمراض ستفتك بهم لا محالة إلى أن يصبح الدواء نفسه غير ذي جدوى فيهم.

لذلك كله، فإن الحرية التي ينادي بها كل أولئك .. ليست سوى تمرد على سنن الكون ونظامه الذي أسسه الله عليه، لتمتلئ الحياة بالسلام، وتمتلئ النفوس بالطمأنينة، وتمتلئ المجتمعات باحترام بعضها بعضا، وسعي بعضها في مصالح بعض.

ولذلك فإن الحرية الحقيقية يا بني .. هي أن تشعر بصلتك بربك، وأنك بعبوديتك له، تكسب كل الكمالات التي تحتاجها.. وتنال كل الفضائل التي تهيء روحك للمراتب العالية.. تلك المراتب التي يستحيل على المتمردين أن يصلوا إليها، أو يدركوا مدى جمالها ورقتها وعذوبتها.

لذلك كانت الحرية هي عين العبودية.. فمن لم يعبد ربه سقط في عبادة الشيطان.. وبعبادته للشيطان يسقط في عبادة نفسه وهواه.. وعندما يؤول الأمر به إلى ذلك تغلق عليه جميع أبواب الخير، وتفتح عليه جميع أبواب الشر.

لقد ضرب الله لنا المثال على ذلك في القرآن الكريم بنهي الله تعالى لآدم عليه السلام عن الأكل من الشجرة.. بينما أتاح له الحرية في الأكل من غيرها.. لكن الشيطان بوساوسه لم ينظر إلى كل ما أتيح للإنسان، وأبيح له، وإنما راح يلفت انتباهه إلى ما حرم عليه، ليجعله متوهما أن كل الجمال والكمال في ذلك الممنوع.

وعندما أكل الإنسان من الشجرة التي منع من الأكل منها، عرف أن الله تعالى ما نهاه عن الأكل منها إلا رحمة به.. فالآكل من تلك الشجرة لا يمكن أن يبقى في الجنة، ولا يمكن أن يظل في ذلك الرفاه الذي وفر له.

وكذلك ـ يا بني ـ كل تلك المحظورات التي أمرنا باجتنابها، فتوهم دعاة الحرية أنها ليست سوى قيود تحد من حرية الإنسان، بينما هي في حقيقتها ليست سوى سموم تقضي على الحياة.. والله تعالى ما قيدنا بها إلا لمصلحتنا ورحمته بنا.. وهي مثل تلك القيود التي يفرضها الطبيب على مريضه حرصا على صحته.. أو تلك الواجبات التي يفرضها الأستاذ على تلميذه حرصا على نجاحه.. أو تلك الممارسات الرياضية التي يفرضها المدرب على من ينتسب لفريقه تقوية لعضلاته..

فهل يمكن لعاقل أن يعتبر الطبيب أو الأستاذ أو المدرب أو غيرهم يقومون بممارسات تحد من حرية الإنسان؟

ولو كان الأمر كذلك، فلم يبذل الناس أموالهم طلبا لتلك القيود التي يقيدونهم بها لأجل مصلحتهم؟

ولو أنهم نظروا إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام بتلك العين التي ينظرون بها لأولئك الذين يحدون من حريتهم، لعرفوا أن نصائح الرسل ووصاياهم لا تقل عن تلك النصائح والوصايا إن لم تتفوق عليها.

فالرسل عليهم السلام لا يكتفون بدعوتهم لإصلاح ظواهرهم، وإنما يدعونهم لإصلاح بواطنهم.. ولا يكتفون بإصلاح دنياهم، بل يبذلون كل جهودهم لإصلاح آخرتهم.. فهل يمكن اعتبار هؤلاء مقيدين لحرية الإنسان؟ وهل يمكن اعتبار تعاليمهم السامية أغلالا تحد من حريته؟


([1])  وقد ورد في الحديث ما يشير إلى هذا، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى امرأة قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبياً أخذته فألصقته بصدرها وهي تبحث على ولدها، فلما وجدته ضمته إليه وألقمته ثديها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه؟)، قالوا: (لا يا رسول اللّه)، قال: (فواللّهِ، للُّه أرحمُ بعباده من هذه بولدها) (البخارى (5/2235، رقم 5653) ، ومسلم (4/2109، رقم 2754)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *