السياحة

السياحة
أخبرتني ـ بني ـ عن السياحة، وأنها أصبحت من ضرورات الحياة المعاصرة، وأن أكثر الناس استووا فيها، سواء كانوا من البسطاء المتواضعين، أو الأغنياء المترفين، وأنهم ـ جميعا، بسبب ما أتاحه التطور الكبير في مجال النقل ـ يتنقلون إلى مواطن كثيرة في العالم، ليقضوا أكثر أوقات حياتهم متعة.
وأنا لا أريد أن أحرم عليك ولا عليهم هذا الترف الجديد الذي أضافوه إلى حياتهم، وكيف أفعل ذلك، وقد أمرنا الله تعالى بالسير في الأرض، فقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20]
وبين أن من مقتضيات الأمن التي وفرها لعباده أن يحتك بعضهم ببعض، ويسير بعضهم إلى بعض، فقال: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ } [سبأ: 18]
وكيف أحرمها، ولولاها لم يخرج سلمان من مجوسيته.. فقد كان سيره في الأرض، وحركته فيها سبيله إلى الهداية بعد الضلالة؟
وكيف أحرمها، ولولاها لم يهتد أولئك الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويستنيروا بنور الإيمان، ثم يجلبونه إلى بلادهم؟
وكيف أحرمها، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السير في الأرض، والبحث عن مواضع العلم والهداية والاستنارة بها، والاستفادة منها، فقال: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة) ([1])
لكني مع ذلك لا أستطيع أن أطبق كل هذا على ما يفعله قومك من السياحة، ذلك أن قصد أكثرهم ليس سوى اللهو المجرد، وهو ما قد يصب في الترف المحض، ذلك أن تلك الأموال الكثيرة التي يصرفونها في سبيل ما يمكنهم الاستغناء عنه بالكثير من البدائل ترف غير مشروع..
فمن كان قصده من السياحة الاستجمام والراحة، فيمكنه الذهاب إلى أي شاطئ أو جبل في أي محل قريب منه، ولا حاجة له لصرف الأموال الكثيرة، والتنقل للمسافات الطويلة في سبيل ذلك.. ولو فعل ذلك كان مترفا، بل متلفا لماله فيما لا فائدة فيه.
وهكذا، فإن من زار تلك الآثار التي تركها السابقون، فإن عليه أن يتأثر لما حصل لهم، ويعتبر بهم، ولا يجعل سياحته مجرد فرجة لا أثر لها في حياته، ولهذا تحض كلمات الله المقدسة على الاعتبار بتلك المشاهد.. قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]، وقال: { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [الأنعام: 11]
وبين القرآن الكريم أن من لطف الله بعباده أن ترك لهم بعض تلك الآثار حتى تكون عبرة لهم، يستفيدون منها، ولا يقعوا فيما وقع فيه الهالكون من الفساد والإفساد، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يوسف: 109]
وهكذا، فإن من خلت سياحته من العلم والاعتبار والفائدة والاستجمام المباح كان مفسدا ومترفا، ولم تزده سياحته إلا بعدا عن نفسه، وخسارة لها.
والعاقل يا بني هو الذي لا يكتفي بإرهاق جسده في السير في الأرض، والتجول في البلدان، فكل بلاد الله متشابهة، والخلاف بينها يسير، ولكن العاقل هو الذي يسير بعقله ويسيح بروحه في عوالم الملك والملكوت، فيرحل منها إلى تلك العوالم المقدسة التي لا يمكن أن يكتشف حقيقته من دون رحلة عقله إليها.
لقد قال بعض الحكماء يشير إلى ذلك: (لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى يسير، والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون)
ولذلك، فإن الحكمة تستدعي السؤال عن سر أي حركة ودافعها وآثارها في النفس وآثارها بعد ذلك على المجتمع، لتحكم بعد ذلك عليها وعلى جدواها ومشروعيتها.. فلا خير في حركة لا ينال صاحبها منها إلا التعب.
ولهذا، فإن الله تعالى يوبخ أولئك الذين يسيرون في الأرض من غير عقول تتدبر، ولا بصائر تتبصر، قال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]
فهذه الآية الكريمة تعبر عن أكثر ما يفعله قومك فيما يسمونه سياحة، فهم يذهبون إلى المواطن التي تدل على الطغيان والجبروت، وبدل أن تكون لهم عبرة، وأن يتأثروا لحال المستضعفين الذين بنوها، والذين ينتشر عرقهم ودماؤهم تحت كل صخرة من صخورها، تجدهم يلهون ويلعبون ويضحكون.
ولهذا نهى سيد الحكماء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يدخل إلى تلك المناطق من دون تأثر ولا ألم ولا حزن، ففي الحديث، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم) ([2])
بل ورد النهي عن الاستقاء بمائهم أو استعماله، فعندما نزل صلى الله عليه وآله وسلم بالحجر في غزوة تبوك وقد كان منازل لثمود، أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء([3]).
وليس هذا النهي من باب التحذير من التلوث
الذي قد يضر الصحة، بدليل إجازته أن يعلفوا الإبل ذلك العجين، ولكن أنواع التلوث
لا تقتصر على التلوث الظاهر الذي يؤذي الجسد، فهناك التلوث الذي يخرب الروح ويكدر
الصفاء، والذي نبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه، وحذر منه.
([1]) مسلم (2699) ، وأبو داود (1455) و (4946)
([2]) رواه مالك الموطأ (2119) و (الحميدي) 653 وأحمد 2/ 9 (4561)
([3]) رواه البخاري 6 / 269 ، ومسلم رقم (2981)