الحداثة

الحداثة

ذكرت لي بني ـ متأسفا ـ الحداثة والحداثيين، وتلاعبهم بحقائق الدين وشعائره، وأن منهم من راح يعيد قراءة القرآن الكريم وفهمه بعيدا عن كل أصول الفهم وفروعه التي يقتضيها ظاهر لغته، وما فهمه العرب سلفهم وخلفهم منه على ضوئها.

وذكرت لي أنهم يستعملون لذلك مناهج كثيرة، تنطلق من نزع القداسة عن المقدس، ثم النصوص عن أصحابها، وظاهر ما أرادوه منها، ليتيحوا لأنفسهم الفهم المتناسب مع عقولهم وأهوائهم وبيئاتهم ومدارسهم.

وذكرت لي أنهم لا يحملون في قلوبهم، ولا في ألسنتهم أي تقديس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل إنهم في أحسن أحوالهم يعتبرونه مجرد مبلغ أدى ما عليه، وأنهم لا يحتاجون لفهم كتاب الله مطابقته لفهمه صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه في تصورهم لا يعدو أن يكون ابن بيئته، يعبر عنها، وعن علومها وثقافتها، ولا يعبر بلسان النبوة الممتد عبر الأزمنة والأمكنة.

وذكرت لي أن أسوأهم حالا من راح يمتهن النبوة، أو يصور أنها مجرد عبقرية، أنتجت منتوجا أدبيا وثقافيا وفلسفيا.. وأنه كما تخضع تلك المنتوجات لكير النقد العلمي، فمثلها ذلك المنتوج المقدس.

وذكرت لي أمثلة ونماذج كثيرة عن ذلك، تجعل من القرآن الكريم حروفا لا معنى لها في ذاتها، وإنما هي أسيرة لدى ذلك الذي يحسب نفسه صاحب مشروع فكري، يتيح له أن يفسر الدين من خلال تفسيره للقرآن، فيقبل ما يشاء منه، ويرفض ما يشاء.

وذكرت لي أن أخطر ما قام به هؤلاء الذين أتيحت لهم كل المنابر الإعلامية ذلك التزهيد في كل الفهوم، بل السخرية منها، وإتاحة الفرصة للعقل، بل للهوى ليفهم من القرآن الكريم ما شاء، ومن النبوة ما شاء.. وبجرة قلم، يمحو كل ما لا يريده، ويثبت كل ما يريده.

وقد تألمت ـ يا بني ـ كثيرا لما ذكرت لي، وتأسفت عليه، لكني لم أتأسف على القرآن الكريم، ولا على النبوة؛ فهما لا يزالان في محلهما المقدس، ولو اجتمع الخلق جميعا، أولهم وآخرهم على أن يزيلوا حرفا واحدة عن قداستهما ما أطاقوا، وقد قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [التوبة: 32]

ولكني أحزن على أولئك الذين يقولون هذا، ويفعلونه.. فهم في عيني لا يختلفون عن الوليد بن المغيرة، ذلك الذي عرف عظمة القرآن، وعرف من خلالها النبوة، وعرف من خلالهما المصدر المقدس لهما.. لكنه خشية على مشروعه الجاهلي، والذي كان هو رئيسه ومرجعه، راح يعتبره سحرا مأثورا.. وليس حقائق مطلقة.

وهؤلاء الذي ذكرتهم ممن تسميهم [حداثيين] يقولون هذا، ويفعلونه.. فهم يعتبرون القرآن الكريم مجرد أخيلة، يتاح لكل شخص أن يتخيلها كما يشاء، ويتلاعب بصورها كما يحلو له.. فيفهم من الدين ما لم يقل به أحد.

ولذلك فإن القرآن الكريم اعتبر سلوك الوليد بن المغيرة نوعا من التفكير.. لكنه ليس تفكيرا حرا نزيها، وإنما هو تفكير مقيد بالمصلحة، ومغلول بالهوى، ولذلك لم يترك لنتائج تفكيره أن تصب في محلها الصحيح، وإنما تدخل، وراح يقدر ما هو المتناسب معها..

لقد قال القرآن الكريم يصفه، ويصف معه جاهلية الحداثة التي لم تخرج عن جاهلية التفكير الأولى: { كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 16 – 25]

إن هذه الآيات الكريمة ـ يا بني ـ لا تصف الوليد بن المغيرة فقط، ولا تصف تفكير المعاندين من قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط، وإنما تصف كذلك ومعه كل المعاندين من أهل الجاهلية الأولى، أو الجاهلية الأخرى.

فأول صفات هؤلاء العناد.. الذي لا يبتغي صاحبه الحق، وإنما الجدال في الحق، حتى يصور الحقائق الظاهرة للعيان بالصور التي تتناسب معه، والتي يريدها، حتى لو جحدت كل شيء، لأن هدفه ليس الاستبصار، وإنما التضليل.. وليس الحقيقة، وإنما الهوى.

وقد أخبر الله تعالى أن من مقتضيات الابتلاء والاختبار الإلهي أن يمد لهذا العنيد كل الأسباب التي تمد عناده، وأن يعطى الحرية المطلقة ليقوم بدوره في التضليل، حتى يكون دوره كدور الشيطان الذي يميز به بين الطيبين والخبثاء، والمحقين والمبطلين.

إن آفة هؤلاء يا بني لا ترتبط بالعلم، ولا بالبحث، ولا بالحقيقة، وإنما ترتبط بالعناد.. فالحداثة التي ذكرتها لي ليس سوى المعاندة.. التي تجعلهم يتركون الحقيقة الواضحة، لكونها لم تصدر عنهم، وإنما صدرت عن غيرهم.. ولكونها صدرت بالشكل الذي لا يريدونه، وهم يريدون من الدين أن يكون وفق مرادهم، أو ألا يخرج عن مرادهم.

لقد قال المعاندون من القدامى ذلك، فقد حكى الله على ألسنتهم قولهم: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]

وهكذا هؤلاء.. لكنهم بدل أن يقولوا قولة أهل الجاهلية الأولى، فيربطوا النبوة بأمكنة يختارونها، راحوا يربطون النبوة بأزمنة يختارونها.. ويتصورون أنه ـ حتى لو لم ينزل القرآن الكريم ـ في هذا العصر، فيمكن التحايل على ألفاظه لتحويلها إلى هذا العصر، لا بالأحكام والقيم التي جاء بها، وإنما بأحكام جديدة وقيم جديدة، تفرض عليه فرضا.

إن هؤلاء يا بني ليسوا سوى أفراد من أولئك الدجالين الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم، وحذر منهم، واعتبرهم فتنة للخلق يصرفونهم عن الحق.. وأن مثلهم لا يخلف عن ذلك السامري الذي راح يقوم بتحديثات في دين موسى عليه السلام، أو أولئك الأحبار والرهبان الذي راحوا يقيمون تحديثات على أديانهم لتتناسب مع أهوائهم.

ولذلك فإن هؤلاء ـ يا بني ـ لا علاقة لهم بالحداثة ولا بالعصر.. وإنما هم مرتبطون بأفكار ومناهج رددها أهل الجاهليات من قبلهم.. أما ذلك اللقب الذي نسبوه لأنفسهم، فهو مجرد حيلة يحتالون بها على العقول، كأولئك الذين يشربون الخمر، ويسمونها بغير اسمها.

والدليل على ذلك أنهم يطنبون في التحذير من التقليد، وهم مقلدون لأساتذتهم من أصحاب المدارس الغربية.. مع أنه كان في إمكانهم أن يستفيدوا من كل المدارس، لكنهم أبوا إلى التقليد.

وهم كذلك يطنبون في رمي العلماء والفقهاء والمفسرين بالبلادة، وأنهم لم يقدموا لعصورهم أي خدمات علمية، وينسون أنهم يرمونهم بالحجارة، مع أن بنيانهم من الزجاج، فهل وجدت حداثيا استطاع أن يكتشف اكتشافا علميا، أو يخترع ما يعاتب غيره على التفريط فيه.

هم يا بني لا يتقنون سوى بضاعة النقد، ولا يحملون سوى سيوف الهدم.. مع أنه كان يمكنهم أن ينقدوا ما يستحق النقد، ويكتفوا به.. ويهدموا ما يستحق الهدم، ويعوضوا بدله البنيان الصالح.. لكنهم بعد التفكير والتقدير.. وبعد أن منحت لهم كل فرص الهداية أبوا إلا ركوب أمواج أهوائهم، والتلاعب بالحقائق والقيم، ثم إشاعة ذلك في المجتمعات، حتى يقال: لفلان مشروع فكري حداثي.. ليكون ذلك فرصة له للظهور بعد الخمول، والغنى بعد الفقر.. وهو نفس ما ذكره الله تعالى عن أولئك الذين حرفوا وبدلوا، وباعوا دينهم بمتاع من الدنيا قليل، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]

وهؤلاء كذلك، فهم يكتبون ما يفهمونه بأهوائهم من القرآن الكريم، ثم ينسبوه لله ورسوله، ليشتروا بذلك ما شاءت لهم نفوسهم من المنزلة والجاه والسلطان، وما يتبعها من الثروات والأموال.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *