فنون

فنون

سألتني ـ بني ـ عن الفنون، وأخبرتني أنها ركن ركين من الحياة، وأن أكثر الخلق يتوجهون بأكثر أوقاتهم إليها، فهم بين فلم يشاهدونه، أو مسلسل يتابعونه، أو أغاني ينتشون، ويطربون لها.. أو صور ومشاهد يمتعون أنظارهم بها.

وأخبرتني أنهم لا يكتفون بتلك المشاهدات، وإنما يضمون إليها متابعة حياة الفنانين بأصنافهم المختلفة، حيث حولوهم إلى أبطال يبحثون عن أسرار حياتهم، ويقتدون بهم فيها.

وأنا أعلم الكثير مما ذكرته لي، وأتأسف له أسفا شديدا.. فما ذكرته يذكرني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها؛ فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء، وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام لآل قطع سلكه فتتابع) ([1])

فهذا الحديث يصف بدقة الانتكاسة التي وصلت إليها البشرية عندما أسندت أمورها لغير أهلها.. فكما تحولت السياسة إلى وسيلة للخداع والانتهازية.. وتحول الاقتصاد إلى وسيلة لابتزاز الأموال.. فقد تحول ما يسمونه فنونا إلى أداة لنشر الرذيلة والفواحش والمنكرات وتحقيق الانتكاسة الإنسانية الكبرى.

وكل ذلك سلسلة واحدة تبدأ بالساسة الانتهازيين، والاقتصاديين الجشعين، الذين علموا أنهم لن يصلوا إلى أغراضهم من تحويل الشعوب إلى أداة طيعة لهم، إلا بنشر تلك القيم التي تولت الفنون نشرها، والدعوة لها، وصرف القلوب إليها.

لقد أشار القرآن الكريم إلى استعمال المستبدين لهذه الوسائل، فقال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [الزخرف: 54]، فالآية الكريمة تشير إلا أنه لا ينفع المستبدين شيء مثلما تنفعهم خفة عقول شعوبهم، والتي تعيش الأوهام التي تسربها لهم تلك التي يسمونها فنونا.

لا تحسب أني ـ يا بني ـ ضد الفنون وجمالها.. فالفن نعمة من نعم الله العظمى على عباده، لأنه وسيلة من وسائل البيان التي نعرف بها الحقائق، وننشرها، ونتبين بها القيم، ونحققها وندعو إليها.

لكن البشر أو أكثرهم، بدل أن يستعملوا هذا البيان الذي أتاحه الله لهم في نشر قيم الفضيلة، راحوا ينشرون قيم الرذيلة.. وراح الخلق يتبعهم فيها، ويتأثر بهم بسببها.

ومثلهم في ذلك مثل تلك الأسلحة التي أمر الله بالإعداد لها، والاهتمام بها، لتحصين جبهة المستضعفين، فتحولت في أيدي المستكبرين إلى وسيلة للقهر والظلم والاستبداد والاستعمار.

وهكذا كان الفن نوعا من أنواع الاستعمار.. لأنه يستعمر حقيقة الإنسان، ويدمر ملكاتها، والقيم التي فطرها الله عليها.

ألا ترى المشاهدين الذي يزعمون لأنفسهم الالتزام يتجنبون في حياتهم كل ما يسيء إليها.. لكنهم عند مشاهدتهم لتلك الأفلام والمسلسلات، يتخلون عن كل القيم التي يؤمنون بها.. ويصبح كل شيء عندهم بسيطا يسيرا عاديا.. فالخمر تشرب أمامهم، ولا يتغيرون لها.. والمنكرات تقع أمام أعينهم، ولا تتحرك قلوبهم لإنكارها.. بل قد تعجبهم.. وقد يشجعون البطل الذي يمارسها.

إن ذلك ـ يا بني ـ هو مقدمة لإخراج الحرج من المعاصي من القلوب، وتحويلها إلى أشياء عادية.. فالشيطان لا يُدخل الإنسان عالمه دخولا مفاجئا، وإنما يدخله بتدرج.. فيبدأ معه مشوار الانتكاسة بأمثال تلك المشاهد.. ثم لا يزال يضيف لها أمثالها إلى أن يصبح المعروف منكرا، والمنكر معروفا.

لذلك كان الورع يا بني في ترك كل تلك الفنون الممتلئة بالمجون.. والبحث عن الفنون الملتزمة المراعية للآداب والأخلاق والقيم الرفيعة.. وهي لا محالة موجودة.. فيستحيل على الشر أن يتفرد وحده..

وإياك يا بني أن تقع فريسة فيما يقع فيه أولئك المطبلون للرذيلة، حين يكرمون كل فنان أو أديب لا يراعي الأخلاق والآداب في أعماله، فيشجعونه، ويعطونه الجوائز الضخمة، لتنتشر أفكاره بتلك الدعاية التي تنطلي على من يريد الشيطان أن يغويهم.

فهم لا يفعلون ذلك حبا فيه، ولا تعظيما له، وإنما ليسنوا من خلاله كل السنن السيئة.. فلا تسمع لهم.. ولا تتبع أهواءهم.. ولا تدعهم يقررون لك الحقائق.. ولا تدعهم يميزون لك بين الجيد والرديء.. فهم ليسوا أهلا لذلك.. فمن يتبع هواه يستحيل عليه أن يميز بين الحق والباطل، والجميل والرديء.

وقد ذكر القرآن الكريم نماذج عن أولئك الذين كانوا يسخرون من القرآن الكريم، وقصصه، ويدعون إلى قصص أكثر إثارة وغرابة، فقال: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31]

أنا لا أدعي يا بني أنهم يتعمدون ذلك.. أو أنهم لا يعبرون عن أذواقهم فيها.. فهم يعبرون عنها.. ولكن أذواقهم فيها أذواق منتكسة، فمن أدمن على الباطل صعب عليه أن يشرب من نبع الحقيقة، وقد قال تعالى عن أمثالهم من أهل الجاهلية الأولى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6، 7]

فاستمع نصيحتي يا بني .. وإياك أن تقع في حبائل الفن الماجن.. فما يبعدك عن حقيقتك لا خير فيه.. وما يصرفك عن ربك لن يملأ حياتك إلا بالكدر.

فالزم الورع، وابحث عن الفنون الجميلة التي حسنت في شكلها وأدائها، كما حسنت في معانيها وقيمها.. فلا خير في الشر الذي تزين ظاهره بالجمال، ولا في المنكر الذي حسنت صورته للعيان.


([1])  الترمذي (2211)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *