سياسة

سياسة

سألتني ـ بني ـ عن السياسة.. فاسمعني جيدا.. فليست السياسة التي علمتك إياها في ذلك الزمن البعيد هي نفسها التي يتحدث عنها الناس اليوم.

في القديم.. في ذلك الزمن الغابر.. ذكرت لك أن السياسة هي أن يصير عقلك ملكا على هواك، وعفافك ملكا على شهوتك، وعدلك ملكا على جورك، وحقائقك ملكا على دعاواك.

وفي ذلك الزمن ذكرت لك أن السياسي الناجح هو من لجم نزواته ونزغاته.. وسيطر على شهواته وأهوائه.. واستطاع أن يحبس في قماقم سليمان كل عفاريت الباطل التي تنتجها كل حين نفسه الأمارة.

وذكرت لك أنه لا يسوس الناس من لا يسوس نفسه.. ولا يحكم الناس من لم يتحكم في هواه.. ولا يقود أي رعية ما لم تنقد له رعايا دولته التي تسكن ذاته.

هذا ما ذكرته لك.. وهذا ما سميته لك سياسة.

لكن السياسة اليوم شيء مختلف تماما.. فاحذر أن تقع في حبائلها، وتستبدل بها ما علمتك إياه أول مرة.

في هذه الأيام يشتري الساسة ألبسة كثيرة تتلون بتلون الأيام، وتتغير بتغير الفصول..  ويركّبون معها في أفواههم ألسنة كثيرة تتقن المدح والهجاء.. وتتقن معها قلب الحقائق والتلاعب بها..

ويستبدل الساسة في هذه الأيام قلوبهم التي خلقها الله لهم بقلوب جديدة لا تعرف لينا ولا رحمة ولا شفقة.. قد تتصنعها، ولكنها لا تتقن التعامل معها.

وفي هذه الأيام صنع الناس صناديق كثيرة.. كثيرة جدا يملؤونها كل حين بأسماء قديمة أو جديدة لهؤلاء الذين ذكرتهم لك..

وكل الناس يتطلعون إلى تلك الصناديق بلهفة وشوق، ولكنهم سرعان ما يدركون الحقيقة ومدى التلاعب بهم.. لكنهم يأبون إلا إعادة تجربة ما جربوه، والوقوع في نفس المصايد التي وقعوا فيها.

وأنا لا ألوم من وقع في شباك هذه الصناديق ممن {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، فذلك هو شأنهم ودأبهم وديدنهم.. ولكني ألوم أولئك الذين تصوروا أنهم عرفوا الله، وعرفوا السبيل إليه..

لقد تعجبت كيف يقعون في تلك الشباك، وكيف ينبذون ذلك الهدي الجميل الذي ورثوه من الحكماء، بل من أحكم الحكماء ليعرضوا به دين الله، ويملأوا به الحياة بجميع جوانيها.. لكنهم بدل أن يستنوا بسنة الرسل عليهم السلام في ذلك، راحوا يستنون بسنة من يسمونهم [سياسيين]، فيدخلون معهم في تلك الصناديق، ويسقطون معهم في مستنقعاتها.

أنا لا أريد منهم، ولا منك، أن تتركوا السياسة.. فالسياسة دين.. والدين سياسة.. ومعاذ الله أن نعزل الشريعة الممتلئة بالعدل عن حكم كل جوانب الحياة.. ولا أن نعزل الصالحين عن قيادتها.. ولكن الطريق إلى ذلك مختلفة.

فليس دين الله مثل تلك البضاعة التي يعرضها المرجفون والمتلاعبون والمحتالون حتى توضع معها في محل واحد.. وإنما هي بضاعة مقدسة، لا يمكن تمريرها عبر تلك الصناديق، وإنما تُمرر إلى عقول الناس وقلوبهم {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] والجدال بالتي هي أحسن.

فإذا ما اقتنعت بها عقولهم، وتأثرت لها قلوبهم، تقبلتها بعد ذلك ذواتهم، وصاروا هم المطالبين بها، لا يرتضون غيرها.. وحينها يمكن أن تُطبق عليهم بقيمها الرفيعة، وأحكامها العظيمة، وشرائعها السامية، لا يدخلون في ذلك أهواءهم، ولا آراءهم، ولا يلغون أي شريعة بحجة عدم تناسبها معهم، وهل يمكن أن يأمر الله بشيء لا يتناسب مع خلقه؟

هذا هو المنهج الوحيد الذي يمكن أن تمارس به السياسة لتبلغ دين الله، وتحققه على الأرض.. أما الأساليب الأخرى، فقد رأيتها يا بني، ورأيت كيف وقع أصحابها في الصراع، وكيف راحوا يتنازلون ـ لإرضاء الأهواء ـ عن كل شريعة، حتى يرضوا من يريدون أصواتهم.

ولم يكتفوا بكل ذلك التشويه، وإنما راح بعضهم يحمل السلاح ليحول دين الله، وشريعته السمحة إلى دين عنف وصراع وإرهاب..

وكل هؤلاء يشوهون الدين، وهم أبعد الناس عن تبليغه .. فسياسة الأمم تبدأ بسياسة النفوس وسياسة المجتمعات.. وبعدها يمكن للصالحين أن يقيموا دولتهم التي لا تحكمها إلا المبادئ السامية، والشريعة الحكيمة.

ولا أعني بهذا يا بني أن تتوقف عن الحديث في السياسة، فمعاذ الله أن أنهاك عن الاهتمام بأمور المسلمين.. أو الوقوف إلى جانب المستضعفين.

فالبشر الآن.. مثل كل العصور.. منقسمون إلى قسمين: المستكبرين والمستضعفين.. ونحن مطالبون بأن نقف في وجه المستكبرين.. وأن نقف في نفس الوقت مع المستضعفين المظلومين.. من غير تفريق في ذلك بين أعراقهم ولغاتهم وأديانهم ومذاهبهم.

لقد أمرنا الله بذلك.. بل أمرنا بنصرتهم بكل أنواع النصرة حتى العسكرية منها، فقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]

فالآية الكريمة تجعل المؤمن جنديا في نصرة المستضعفين المظلومين في أي أرض، وفي مواجهة أي عدو.. بغض النظر عن دينه وعرقه وبلده.

وكما ينصر المؤمن المستضعفين بتلك الطرق التي ذكرتها الآية الكريمة ينصرهم بغيرها أيضا.. فكل سبيل أو وسيلة يمكنك بها أن تقف في وجه الاستكبار والظلم، فمارسها.. ولا تسمع لأولئك الذين ينهونك عن التدخل في مثل هذه السياسة.. فمن لم يقف مع المظلوم وقف مع الظالم لا محالة.. ومن سكت عن الظلم، فهو شيطان أخرس.

وأنبهك يا بني إلى أن أخطر ما في السياسة اليوم ذلك التلاعب بالحقائق، عبر التلاعب بالعواطف.. حيث ترى رؤوس الاستكبار وأئمة الكفر ينشرون الخراب فيمن يخالفونهم بحجة تحرير الشعوب، مع أنهم لا يقومون سوى بإثارة الفتن بينها، واستعمال من باعوا دينهم وذممهم وأخلاقهم لذلك.. فاحذر أن تقع ضحية مكرهم.

وإن شئت أن تركب سفينة النجاة في ذلك.. أو تحدد بوصلة الحق وأهله.. فابحث عن رؤوس الاستكبار والظلم، فحيثما وجدتهم فخالفهم.. وحيث ساروا لا تسر.. وفي أي جبهة قاتلوا.. فقاتل خلاف قتالهم.

هذه هي السياسة يا بني.. فاحذر أن تتركها، أو تقع في حبائلها، أو تسمع لمن يدعوك إلى اعتزالها.. فأنت ممتحن في كل موقف من مواقفك.. والخطأ فيها كبيرة.. والخطيئة فيها جريمة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *