حجب

حجب

أعلم يا بني أنك تألمت كثيرا من ذلك السير الطويل الذي سرناه حتى نصل إلى ذلك المدير طلبا لتلك الحاجة التي حالت بيننا وبينها الحوائل.. وأعلم أنك تألمت أكثر عندما رفض المدير الإذن لنا بالدخول عليه، لتوضيح طلبنا، وبيان مدى حاجتنا.

لكني أنصحك بألا تتألم.. وأن تعبُر مما حصل لك، وتستفيد منه فنون الحكمة.. فالله ما وضع لنا العوائق في حياتنا الدنيا ليعذبنا، وإنما خلقها لنا ليربينا ويعلمنا.

وأول تلك العبر أن تعلم عظيم فضل الله علينا بإتاحة الفرص لنا لنحدثه متى نشاء، وكيف نشاء، وفي أي حاجة نشاء من غير أن تحول بيننا وبينه الحجب، ولا أن نتعب أقدامنا بالحركة، ولا أنفسنا بالهوان والذلة.

واعلم ـ يا بني ـ أن ذلك المدير الذي لم تتح لنا فرصة اللقاء به بعد ذلك الجهد الشديد، ليس سوى ذرة في مملكة الله الواسعة، وأنه لا يقدم ولا يؤخر لولا إذن الله له.. فلذلك انظر ـ من خلال تلك الحجب ـ إلى فضل الله عليك بطرقك لبابه، ولجوئك إليه، فهو ما حرمك من خلقك إلا لتضطر له وحده، وسترى عند ذلك عظيم فضله عليك.

وثاني تلك العبر أن تتعلم فنون رفع الحجب.. وأنك تحتاج فيها إلى بذل الجهد، فما وصل إلى غرضه كسول، ولا ارتفع إلى تلك الآفاق السامية صاحب همة دنية، وقد قال الله تعالى يبين الطريق لرفع الحجب بينه وبين خلقه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]

فإياك أن تركن للكسل، أو تتوهم أن المطالب العظيمة يمكنك أن تنالها بالتعب البسيط.. فبقدر همم الأرواح تتعب الأجساد.

واعلم يا بني أن الذي خلق هذه الحجب في الدنيا قد وضع بينه وبين عزته من الحجب ما يحمي جنابها من أن يكون مثابة لكل قاصد، أو شرعة لكل وارد، فالله قد يعطيك الأشياء التي تريدها.. أما معرفته والتواصل معه، فيحتاج همة أعظم، ولذلك أُسدلت الحجب بين الخلق وبينها حتى لا يصل إلا الصادقون.

وقد روي أن رجلا من العباد قال مخاطبا ربه: (إلهي! إلى كم أعصيك، ولا تعاقبني؟!)، فأوحى اللّه إلى نبي ذلك الزمان، وطلب منه أن يقول له: (إلى كم أعاقبك و أنت لا تدري؟!.. ألم أحجبك عن لطائف أنسي!.. ألم أخرج عن قلبك حلاوة مناجاتي!)

هل علمت يا بني الحجب الحقيقية.. فهي ليست تلك التي حالت بيننا وبين ذلك الرجل الذي يوشك أن يترك منصبه، ويترك الدنيا جميعا.. ولكن الحجب الحقيقية هي التي تحول بينك وبين ربك.. فذلك هو الحجاب الأعظم الذي لا عقوبة أشد منه.. فما وجد من فقد الله.. وما فقد من وجده.

واعلم يا بني أن تلك الحجب الحائلة بين الله وخلقه، ليست من الله، وإنما من الخلق، فالله أعظم من أن يحجبه شيء.. ولكن الخلق هم الذين يسدلون بينهم وبين ربهم الحجب.. ألم تسمع قوله تعالى، وهو يحكي ما يحصل للذين آثروا الحجاب عن الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، وبين سبب ذلك، وهو وضعهم للحجب في الدنيا، وإيثارهم لها، فقد قال تعالى قبل تلك الآية الكريمة: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، ليبين أن السبب في ذلك الحجاب ليس من الله، وإنما من عند أنفسهم، بعد أن ملأوا قلوبهم بأنواع الشبه التي تحول بينهم وبين ربهم.

ولم يكن ذلك هو حجابهم الوحيد، بل إنه يحال بينهم وبين الكلام مع الله، أو بثهم شكاواهم إليه.. فقد قال تعالى يصف حال الجاحدين الظالمين الذين وضعوا بينهم وبين ربهم الحجب:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 108 – 111]

فاحذر يا بني من هذه الحجب .. فهي الحجب الحقيقية، وما عداها أوهام وسراب لا قيمة له.. فما قيمة أن يحجبنا ذلك المدير إن أذن لنا الله؟.. وما قيمة أن يأذن لنا إن حجبنا الله؟

لقد دخل بعض الصالحين مدينة، فتبعه خلق كثير، فلما نظر إليهم وإلى ازدحامهم عليه، قال: (اللهم إني أعوذ بك أن تحجبني عنك بهم، و أعوذ بك أن تحجبهم عنك بي)

هكذا يا بني فليكن حالك.. فاحذر من أن تسكن لشيء فتحجب به عن ربك، فيكون وبالا عليك، فلا خير في راحة تكون معها القطيعة، ولا خير في دنيا تحرم من الآخرة، ولا خير في مال أو جاه تتبعه خسارة الأبد.

وقد قال بعض الصالحين: (لو أن رجلا دخل إلى بستان فيه من جميع ما خلق الله تعالى من الأشجار، عليها من جميع ما خلق الله تعالى من الأطيار، فخاطبه كل طائر منها بلغته، وقال: السلام عليك يا ولي الله، فسكنت نفسه إلى ذلك كان في يدها أسيرا)

فلذلك افرح يا بني بفضل الله عليك أن حجب عنك بعض المصالح، فهو ما حجبها عنك ليعذبك، وإنما حجبها ليرفعك، ويربيك، ويلقنك فنون الحكمة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *