اقتصاد

اقتصاد

طلبت من ـ يا بني ـ أن أحدثك عن الاقتصاد بعد أن حدثتك عن السياسة، وأخبرتني أنهما أخوان شقيقان، وأن علامة نجاح الساسة، واستمرارهم في الحكم، نجاحهم في الاقتصاد، وقد حاولت أن تبرر لي ذلك بما قرأته في علم الاقتصاد، وارتباطه بعلوم كثيرة.

وأنا لا أجادلك في ذلك، ولا أناقشك فيه؛ فأنا أعلم أنك درسته، بل كدت تتخصص فيه.. وأعلم أن بعضه مما يكاد يعتبر من العلوم المحضة لارتباطه بالحساب والرياضيات وغيرها.

ولكني مع ذلك سأحدثك عن عالم الحكمة، وعلاقته بعالم الاقتصاد.. فالحكمة لا تنظر إلى الأشياء.. وإنما تنظر إلى حقائقها وأرواحها والقيم المرتبطة بها.. وتنظر إلى المصير الذي تصير إليه، ولا تحجب بالواقع الذي تعيشه.

لذلك تدعوك الحكمة إلى عدم الاكتفاء باحترام السياسي الذي عرف كيف يدير اقتصاد بلده، قبل أن تسأله عن مناهجه التي استعملها في ذلك، وهل هي متوافقة مع الأخلاق والقيم الرفيعة وكرامة الإنسان، أم أنها تخالفها في ذلك؟

فقد رأيت من الساسة من راح يشجع السياحة، لتُدر على بلده الثروات الضخمة، وقد أدرّت بالفعل على بلده كل عملات العالم.. ولكنها أدرت معها كل فجورها وفسوقها وانحرافها.. حيث حول من أرض بلده إلى بلد لا تختلف عن سدوم وعمورية .. وتلك الأقوام التي شنع عليها الأنبياء بسبب الرذائل التي أتاحوها، والمنكرات التي أشاعوها.

نعم .. لقد نجح في إدخال العملة التي يسميها صعبة إلى بلده، وأدخل معها الكثير من الرذائل التي يصعب عليه أن ينزعها.. ولذلك كان جوع قومه قبلها أحسن من شبعهم الذي أدخله عليهم، وأدخل معه كل المنكرات والرذائل.

ورأيت مثله من راح يشجع الشركات والمصانع على إنتاج كل شيء، من غير نظر في جدوى ذلك على أهل بلده أو على غيرهم.. فراح الكثير منها ينتج السموم التي يسميها أغذية أو أدوية، لا يراعي في ذلك إلا ما يدخل جيبه من ثروة، وما يدخل بلده من رفاه.. وأي قيمة لرفاه وثروة تقتل الصحة، وتنزل أنواع البلاء.. وأي قيمة لجيوب ممتلئة مع صحة معتلة، وجسد متهالك؟

ورأيت مثله من يتيح للقنوات والصحف أن تنشر كل شيء.. وتبث كل الأكاذيب والرذائل في سبيل أن ينشط الاقتصاد، ولو على حساب الأخلاق والقيم الرفيعة.. فأنشئت الأفلام والمسلسلات والأشرطة والبرامج التي لا هم لها إلا تحطيم الإنسان، وتحويله إلى بهيمة لا يهمها من الحياة إلا تلك المتع الدنية التي تتمتع بها.

ورأيت قبلهم جميعا أولئك المستكبرين الذين أرسلوا جيوشهم للمستضعفين ليسرقوا ثرواتهم، ويستولوا على خيراتهم، في سبيل أن ترضى عنهم شعوبهم، بسبب الأموال التي يدخلونها لهم.

إن هؤلاء جميعا يا بني لصوص وقطاع طرق ومجرمون، وإن تصور الخلق أنهم قد نجحوا في عالم الاقتصاد، أو حولوا بلادهم من التخلف إلى التقدم، ومن الفاقة إلى الرفاه.. فأي قيمة للمال الحرام.. أي بركة لتلك الأرزاق التي يهان بها القيم والأخلاق والدين.

لذلك لا تنظر يا بني إلى الاقتصاد بتلك العين العوراء التي تقتصر على الحسابات، فتقع فيما وقع فيه قارون عندما راح يعد أمواله وكنوزه، ويفتخر بها، وينسى أن يحاسب نفسه عليها.

ولذلك علمنا سيد الحكماء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نسأل عن القيم قبل أن نسأل عن الأموال، وأن نبحث عن الأخلاق قبل أن نبحث عن الرفاه.. فليس الشأن أن نغتني بالمال، وإنما الشأن أن نغتني بالأخلاق.. لأنها هي التي تصحبنا إلى ربنا.. أما الأموال، فسنحاسب عليها من غير أن نأخذها معنا.

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبين أهم المسائل التي يسأل عنها الإنسان في ذلك العالم الذي يميز فيه الطيب من الخبيث: (ما تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه)

وحذر من أن يكون هدف الإنسان تنمية ثروته، ولو على حساب أخلاقه، فقال: (الدنيا خضرة حلوة، من اكتسب فيها مالا من حله وأنفقه في حقه أثابه الله عليه وأورده جنته، ومن اكتسب فيها مالا من غير حله وأنفقه في غير حقه أورده الله دار الهوان، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة، يقول الله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} (الاسراء: 97)

وأخبر أن النار تنتظر كل اللحوم التي نبتت من السحت والمال الحرام الذي حققه الرفاه الاقتصادي الممتلئ بالشبهات، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا من سحت والنار أولى به)، وقال: (لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به)

وأخبر أن من رضي بالاستفادة من الحرام، ولو لم يساهم فيه، كان شريكا للمجرمين في جريمتهم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من اشترى سرقة وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في عارها وإثمها)

ولذلك، فإن كل تلك الشعوب التي تطالب حكامها بالرفاه، ولو على حساب الأخلاق، شريكة لها في كل جريمة ترتكبها.. ولو بسكوتها عن الباطل، أو عدم وقوفها مع أهل الحق.

فقد رأيت من السياسيين من يشترون صمتهم عن الجرائم التي يرتكبها معسكر الطغيان بسبب خوفهم من العقوبات الاقتصادية، أو خوفهم على بعض مصالحهم، وهم بذلك شركاء في الجريمة، وهم بذلك آكلون للمال الحرام، والشعوب التي ترضى عنهم بسبب ذلك لا تختلف عنهم فيه.

لذلك يا بني .. لا تقع فيما يقع فيه أولئك الذين يعدون الأموال دون أن يبحثوا في مصادرها.. فإن تلك الأموال ستنقلب وبالا عليهم..

وإياك أن تفعل ما يفعله أولئك الذين فصلوا بين الأخلاق والاقتصاد والسياسة، فتحول الإنسان عندهم إلى شيطان رجيم.. لا هم له إلا ملء بطنه من الأكل الحرام الذي يرتد وبالا عليه في الدنيا والآخرة.

لعلك يا بني ترى تلك الوحشة التي تكسو وجوههم، وذلك الضنك الذي تمتلئ به معيشتهم، مع أن لهم كل ما يقتضيه الترف والرفاه.. وسبب ذلك غفلتهم عن تلك الأموال الحرام التي اختلطت بطعامهم وشرابهم ولباسهم ومسكنهم، فحولته إلى تلك الحال.. فبركة الله أعظم من أن تحل في محل ممتلئ بالحرام.

وكيف تحل البركة بيوتهم أو نفوسهم، وقد وضعوا الحجب بينهم وبين ربهم بتناولهم للمال الحرام، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرّجل (يطيل السّفر أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ! يا ربّ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنّى يستجاب لذلك؟)([1])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من اشترى ثوبا بعشرة دراهم في ثمنه درهم حرام، لم يقبل الله له صلاة ما كان عليه) ([2])

وعندما سأله بعض الصحابة أن يدعو الله بأن يجعله مستجاب الدعوة، قال له: (أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عمل أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من سحت، فالنار أولى به) ([3])

ولا يغرنك يا بني ما يفعله بعض أولئك بتلك الأموال من أعمال قد تبدو لك صالحة، فإن الله أكرم من أن يقبلها.. فالله طيب لا يقبل إلا طيبا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك وزادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغرز، فنادى لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور) ([4])

وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لا دين لمن لا أمانة له ولا صلاة ولا زكاة، إنه من أصاب مالا من حرام فلبس جلبابا ـ يعني قميصا ـ لم تقبل صلاته حتى ينحي ذلك الجلباب عنه؛ إن الله تبارك وتعالى أكرم وأجل من أن يقبل عمل رجل أو صلاته وعليه جلباب من حرام) ([5])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفيه درهم من حرام لم يقبل الله عز وجل له صلاة ما دام عليه) ([6])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (من جمع مالا حراما ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه)([7])

تعلم يا بني من هذه الأحاديث وغيرها من النصوص المقدسة فنون الاقتصاد الرباني الذي يحمي الإنسان من آثار نفسه الأمارة بالسوء، والتي لا تريد منه إلا أن يملأ خزائنه، ولو على حساب الفقراء والمستضعفين والمحرومين؛ فيأكل الربا، ويغش ويحتكر، ويغبن، ويبيع الوهم والرذيلة والفحشاء.. في سبيل أن تزيد ثروته، وتزيد معها ذنوبه وجرائمه وأوزاره.


([1])  مسلم: (1015)

([2])  أحمد: 2/ 98.

([3])  المعجم الأوسط (6495)

([4])  المعجم الأوسط (5228)

([5])  البزار (3/61، رقم 819)

([6])  رواه عبد بن حميد في المنتخب (849)، والبيهقي في الشعب (6114)

([7])  ابن حبان (8/153، رقم 3367)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *