أرزاق

أرزاق

مالي يا بني كلما حدثتك عن الرزق انصرف ذهنك إلى المال.. فهل ترى الرزق محصورا في المال؟ .. أم ترى أن الذي لم يُرزق مالا لم ينل حظه من اسم الله الرزاق الذي تجلى لكل شيء؟.. أم ترى أن المال هو أساس الأرزاق ولبها، وأن من فقده كان كمن فقدها جميعا؟

ليس الأمر كذلك يا بني .. فما المال إلا رزق من أرزاق الله.. وفضل من فضله.. وقد يرى الله بفضله وكرمه ورحمته بعباده أن في إعطائه منعا، فيمنعه، لا بخلا، وإنما كرما.. فالكريم الحقيقي هو الذي يمنعك مما يضرك حتى لو اشتاقت له نفسك، أو حن إليه طبعك..

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي حاكيا عن ربه سبحانه وتعالى هذا المعنى: (وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه، ولو أعطيته إياه لدخله العجب وأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادي بعلمي بقلوبهم إنى عليم خبير) ([1])

ولذلك انصرف بذهنك عند ذكر الأرزاق إلى روحك وعقلك وقلبك وكل لطائفك .. فهي كلها تحتاج أرزاقا خاصة بها، وأقواتا لا يمكن للمال أن يلبي مطالبها، ولا أن يسد حاجاتها.

ولا تختصر الإنسان في ذلك الجسد الذي لا يشكل إلا جزءا ضئيلا فانيا من حقيقته.. فالإنسان روح وجسد.. وفي الروح كل أنواع اللطائف التي لا حاجة لها للمال، بل قد يفسدها، ويؤثر فيها، ويحولها عن عالمها إلى العوالم الدنيا، حين تترك رحلتها الأبدية في العالم الأسنى لتجعل كل همها ملء خزائنها من اليواقيت والجواهر، لا من الخلال والمكارم.

لقد ذكر الله تعالى ذلك حين أخبر عن أولئك الذين تثاقلوا إلى الدنيا، وباعوا كلمات الله بأجور محدودة، وثمن قليل، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174]، ثم بين الجزاء الذي ينتظرهم، أو ثمن السلعة التي باعوها، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]

ولذلك اجعل كل همك يا بني في أرزاق الروح، تلك الأرزاق التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين، فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه)، قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: (غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام، فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يترك خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث) ([2])

إن  هذا الحديث، وفي كل حرف من حروفه يبين لك حقيقة الرزق ومجالاته، وأنها أعظم من أن تحصر في ذلك المال، وخاصة إن كان حراما.. فهو حينها وبال على صاحبه حتى لو تصدق منه، فتلك الآثار التي يتركها في القلب والروح لا يمكن علاجها لا بالصدقات، ولا بغيرها.

لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض آثار ذلك الشغف بالمال، واختصار الرزق فيه، فقال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) ([3])

وإياك يا بني أن تترك ما ذكرته لك من النصوص المقدسة لتردد علي ما يذكره الغافلون من أقوال الشعراء الذين يهيمون في كل الوديان، فتذكر لي قول من قال:

المال يستر كل عيب في الفتى … والمال يرفع كل وغد ساقط

فعليك بالأموال فاقصد جمعها و … اضرب بكتب العلم بطن الحائط

أو قول الآخر:

إذا قل مال المرء قل بهاؤه … وضاقت عليه أرضه وسماؤه

وأصبح لا يدري وإن كان حازما … أقدامه خير له أم وراؤه

فما صدقوا فيما ذكروا.. فما أكثر أصحاب الأموال الذين ذهب جهلهم بشرفهم، وصاروا محل سخرية من الناس..

توهم يا بني لو أن الله أعطاك من كل أموال الدنيا، ثم أخذ ما أعطاك من العلوم أو الأخلاق، فصرت جاهلا سفيها.. فما تنفعك تلك الأموال حينئذ؟ وهل يمكن أن تفعل بك إلا مثلما فعل الدب بصاحبه حين قتله، وهو يتوهم أنه يذب عنه؟

فكذلك الأموال عندما تقع بيد الجاهلين، والذين يبحثون عن مصادر يصدرونها بها، حتى يكون انتفاعهم بها كاملا شاملا.. فيقعوا حينذاك في الإسراف والترف، ومن وقع في الإسراف والترف هلك، كما قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } [الإسراء: 16]

ولذلك لا تحزن يا بني عن تلك الأرزاق التي فاتتك، فأنت وأغنى أغنياء الدنيا، تأكلون بفم واحد.. وتستوي معهم في الرؤية والسمع وكل المدارك.. وإذا أويتم إلى فرشكم أويتم إلى فرش بقدر أجسامكم.. فلذلك كان كل ذلك الطعام والقصور التي يملكها الأثرياء أشياء زائدة أنت مستغن عنها، وأنت مستو معهم في المصالح المرتبطة بها.

بل إن الله تعالى قد يرزقك من لذة الطعام البسيط ما لا يرزقهم في الطعام الفاره الذي يتناولونه.. ويرزقك من الراحة والسعادة في الفراش الخشن الذي تأوي إليه ما لا يجدون مثله في الفرش الناعمة التي يستلقون عليها.. فالله الذي رزق الطعام هو نفسه الذي يرزق لذته.. والذي رزق الفراش هو الذي يرزق الراحة والسكينة.. ولا ارتباط لأحدهما بالآخر.

فلذلك لا تتوهم يا بني أن الله تعالى رزق الأغنياء وتركك.. بل إنه ربما يكون قد رزقك من راحة البال ما لم يرزقهم.. مع أن كل ما رزقهم سيصل إليك، فهم ينتفعون بأموالهم، لكن لا يملكونها، بل لا يملكون منها إلا ما يأكلونه أو يشربونه .. وأنت لا تختلف معهم فيه.

فلذلك لا يصح أن تذل لهم لأجل غناهم، أو ترى نفسك أهون منهم لأجل أموالهم، بل افعل ما فعله ذلك الصالح الذي قال له بعض الأمراء: سلني حاجتك؟ فقال الصالح بكل عزة: (أولي تقول هذا، ولي عبدان هما سيداك)، فقال الأمير: ومن هما؟ قال : (الحرص والأمل)

هل رأيت يا بني النظرة الثاقبة لهذا الحكيم الصالح، فهو لم ينظر إلى ما في خزائن الأمير من أموال، وإنما نظر إلى ما في خزائن قلبه ونفسه من الأخلاق.. فتلك الأخلاق التي يجدها الإنسان في نفسه، أو ييسر الله عليه اكتسابها لا يمكن لأموال الدنيا جميعا أن تعوضها.

لذلك افرح بنعمة الله عليك، وتذكر أولئك الذين يحنون إلى ما عندك من فضل الله.. فإنك إن نظرت إليهم عظمت نعم الله عليك، ولم تحتقرها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه)، وفي رواية: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)، وفي رواية: (انظروا إلى من هو أسفل منكم في الدنيا، وفوقكم في الدين، فذلك أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم) ([4])

وقد قال بعض الصالحين معبرا عن تأثير العلاج الوارد في هذا الحديث في نفسه: (كنت أصحب الأغنياء فما كان أحد أكثر هما مني، كنت أرى دابة خيرا من دابتي، وثوبا خيرا من ثوبي، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت)

وصدق في ذلك، فأكثر الفقراء الممتلئين بالهم والحزن، لم يكن همهم بسبب قلة رزقهم، وإنما همهم بسبب الأغنياء الذين يرونهم، ولو أنهم كفوا عن النظر إليهم، أو نظروا إلى من هو دونهم، لعاشوا أغنياء، ولو في أثواب الفقراء، والعبرة بما نعيشه، لا بما يقوله الناس.


([1])  ابن أبى الدنيا في الأولياء (ص 9، رقم 1) ، والحكيم (2/232) ، وأبو نعيم في الحلية (8/318) ، وابن عساكر (7/95)

([2])  رواه أحمد (6/ 189)

([3])  رواه أحمد 3/ 323 (14515) وعبد بن حميد 1143 والبخاري، في (الأدب المفرد) 483 ومسلم 8/ 18 (6668)

([4])  رواه البخاري 11 / 276 ، ومسلم رقم (2963) ، والترمذي رقم (2515)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *