أجواء

أجواء
أنت تسمع الآن يا بني إلى حديثي، وتسمع معه أصوات الرياح الشديدة التي تكاد تقلع سقف بيتنا، وتتألم لذلك.. فلا تتألم له.. فما هذه الرياح برياح عذاب، وإنما هي رياح رحمة.. وأنت محتاج إلى العبور منها إلى معارف كثيرة، وحقائق سامية، وقيم مقدسة.. لن تصل إليها من دون ذلك العبور.
فالله تعالى ما خلق لنا الأشياء، ولا نوّعها لنا، لنسكن إليها، وإنما لنرحل إلى الحقائق المختفية خلفها، ونفتش عن المعاني المرتبطة برموزها.
وأول تلك الأسرار معرفتك بقدرة الله المطلقة، وأنه الخلاق البديع الذي لا يعجزه شيء.. ففي الوقت الذي تسمع فيه هذه الأصوات، وتفزع لها، هناك من يستمتع بهبوب النسيم العليل، وفي الحدائق الغناء.. وهناك من يرى العواصف الثلجية.. وهناك من يعيش بين الزوابع الرملية.. وهناك من يعيش تحت فيح الحر الشديد.. وهناك من يعيش تحت البرد الزمهرير.
وكل هذه الظواهر من إله واحد بيده القدرة على كل شيء.. وقد كان في إمكانه أن يجعل الجميع شيئا واحدا، لكن حكمته أبت إلا التنوع.. رحمة بعباده، ولطفا بهم.
فلو أن الله ما خلق الكون إلا بصورة واحدة لتوهم الخلق عجزه عن غيرها.. ولذلك كان التنوع في الكون دليلا على القدرة المطلقة.. وأن الله هو الخلاق الذي لديه كل التصاميم، وأن قدرته المطلقة تمتد إليها جميعا، من غير أن تفرق بين تصميم وتصميم.
وهذه المعرفة وحدها من يحميك من آثار هذا التنوع.. فمن الخلق من راح يزدهي به ويفتخر، ويتوهم أن الله ما اختار له أفضل البقاع، وأكثرها لطفا إلا لكونه الأفضل والأكرم.. معاذ الله أن يفرق الله بين عباده.. ولو أنه تواضع، وعلم أن ذلك فضل من الله عليه، ليشكره، ويحمده، ويجعله وسيلة لرحمة من ابتلي بغير ما ابتلي به، لكان ذلك نافعا له..
لكن الكبر الذي جعل إبليس يقول لآدم عليه السلام: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76] هو نفسه الذي جعل تلاميذه من المستكبرين، لا يفخرون بأعمالهم الصالحة التي عملوها، ولا بالقيم الطاهرة التي امتلأت بها نفوسهم، وإنما يفخرون بلطف الجو الذي يعيشون فيه، وحدائقه الغناء، ونسيمه العليل.
وقد نسوا أن كل ذلك ليس سوى عارية أعيرت لهم، وأنها مجرد دار يوشك أن يفارقوها، وأنهم بعد فراقهم لها، سيلقون ما يتناسب مع كبرهم وضلالهم وغرورهم، وأنهم في تلك الدار التي تنتظرهم، لن يجدوا ذلك النسيم الذي لم يحسنوا التعامل معه، وإنما يجدون ما وصفه الله تعالى بقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:41 – 44]، وقال: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 30 – 33]
وقال للذين نفروا من التكاليف التي كلفوا بها هربا من الحر الشديد: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81]، ثم رد عليهم ببيان مدى تهافت الخيار الذي اختاروه، فقال: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82]
لذلك يا بني .. لا تنظر إلى هذه الأجواء القاسية التي تعيشها في هذه البلدة.. ولا إلى تلك الأجواء الجميلة في غيرها.. وانظر إلى الأجواء التي تنتظرك إن أنت أحسنت التعامل مع البيئة التي وضعك الله فيها.. فإن أنت رضيت بما قدره الله لك، وحمدت الله عليه، ولم تعترض، ولم يصبك الغرور ولا الكبرياء.. حينها ستنقل إلى الأجواء الصالحة لك.. والتي تكون كلها ربيعا لجسدك وروحك.
لقد قال الله تعالى يصف الجنة وجوها المعتدل الذي لا يضطرب، ولا يتغير أبدا: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13]، أي أنهم لا يرون شمسا يتأذون بحرها، ولا زمهريرا يتأذون ببرده.
وهكذا وصف الله ظلال الجنة، والتي لا تعني وجود حرارة فيها، وإنما تعني جمالها، قال تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: 57]، وقال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]
ولذلك فكر في ذلك العالم الجميل، فقد وضع الله لك من النماذج في الدنيا ما يدل عليه.. وما تراه ليس سوى نماذج لا يساوي معها جمال فضل الله في تلك الدار شيئا.. فالأزهار هنا تذبل.. لكنها هناك متفتحة دائما.. والثمار هنا تنقطع .. لكنها هناك دانية متدلية لا تنقطع أبدا.. والنسيم هنا قد يتحول إلى أعاصير.. أما هناك فسيبقى نسيما دائما أبدا.. وهنا قد تحتاج إلى المكيفات والمواقد.. أما هناك فلن تحتاج لشيء من ذلك؛ فكل شيء هيئ لك خصوصا لتنعم، ولا تبأس، وتفرح ولا تحزن.
لذلك لا تنزعج لهذه الأصوات.. واسمع منها تسبيحها وحمدها وتكبيرها لله.. وانظر فيها قدرته الباهرة التي تحرك ما تشاء، كيف تشاء.
واعلم يا بني أني لا أدعوك إلى أن تغالب طبعك الذي ينفر من الحر الشديد، ولا من البرد القارس.. ولا أدعوك لأن تسكن لذلك من غير أن تواجهه بما يصد أذاه عنك.. لكني أحذرك من أن تعترض على ربك الذي خلق ذلك، فهو ما خلقه ليعذبك، وإنما ليربيك، ولتتعلم من هذه الأجواء علوما كثيرة لا يمكنك أن تتعلمها في المدارس، ولا من الأساتذة.
ولذلك كان من اختبار الله لعباده أن جعل بيته الحرام في تلك البلدة التي وصفها الله تعالى بقوله ـ على لسان إبراهيم عليه السلام ـ: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]
وقد ذكر الإمام علي سر ذلك، وعلاقته بالاختبار الإلهي، فقال: (ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه، إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، وأقل نتائق الدنيا مدرا، وأضيق بطون الأودية قطرا، بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف، ولا حافر ولا ظلف، ثم أمر آدم عليه السلام وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتى يهزوا مناكبهم ذللا يهللون لله حوله، ويرملون على أقدامهم شعثا غبرا له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم ابتلاء عظيما، وامتحانا شديدا، واختبارا مبينا، وتمحيصا بليغا، جعله الله سببا لرحمته، ووصلة إلى جنته) ([1])
ثم ذكر قدرة الله المطلقة على أن يجعل بيته في محل آخر، أكثر راحة، وأفضل جوا، لكنه لم يفعل، اختبارا لعباده، فقال: (ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام، بين جنات وأنهار، وسهل وقرار، جم الأشجار، داني الثمار، ملتف البنى، متصل القرى، بين برة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء، ولو كان الأساس الـمحمول عليها، والأحجار المرفوع بها، بين زمردة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفف ذلك مضارعة الشك في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من الناس، ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بألوان الـمجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجا للتكبر من قلوبهم، وإسكانا للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله، وأسبابا ذللا لعفوه)([2])
ثم بين موضع العبرة من هذا، فقال: (فالله الله في عاجل البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر، فإنها مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى، التي تساور قلوب الرجال، مساورة السموم القاتلة، فما تكدي أبدا، ولا تشوي أحدا، لا عالما لعلمه، ولا مقلا في طمره، وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكينا لأطرافهم، وتخشيعا لأبصارهم، وتذليلا لنفوسهم، وتخفيضا لقلوبهم، وإذهابا للخيلاء عنهم، لما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه، بالتراب تواضعا، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا، ولحوق البطون بالمتون من الصيام تذللا، مع ما في الزكاة من صرف ثمرات الأرض، وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر) ([3])
فاستفد يا بني من هذه الحكمة، واعبر منها
إلى غيرها.. فالله ما خلقك في هذه الدنيا لتسكن إليها، وإنما لتعبر منها .. أما
الجزاء فهو بقدر عبورك، وحفظك لدروسك.. وهو بقدر المكارم التي تملأ بها نفسك.. والمواجيد
التي تملأ بها قلبك.. والحقائق التي تعمر بها عقلك وروحك.
([1]) نهج البلاغة: 2/147.
([2]) نهج البلاغة: 2/148.
([3]) نهج البلاغة: 2/149.