مضمار

مضمار

رأيتك ـ يا بني ـ مثل الكثير من أترابك مهتما بتلك المسابقات والمنافسات الكثيرة التي تجري في العالم كل حين، وحول ألعاب مختلفة، منها الرياضية والفكرية وغيرها.

وأنا لا أعاتبك في ذلك؛ فالاهتمام بمثل هذه المنافسات قديم جدا.. والبشر ـ سواء أولئك الذين يمارسون تلك الألعاب نفسها، أو من يقف معهم فيها ـ يحبون أن يتفردوا بالفوز على منافسيهم، وأن يكون النصر حليفهم فيها.

ولكني أعاتبك عندما تتوقف همتك على ذلك، أو عندما يكون دورك في تلك المنافسات مثل ذلك المشاهد الكسول الذي يفرح لنصر غيره، وينسى أن يخرج من كسله، ليحقق لنفسه فوزها في مضمار الحياة الذي أقامه الله لعباده.

فالحياة يا بني ـ بكل مجالاتها ومعانيها ـ مضمار يتسابق فيه العباد، لتحقيق الكمالات التي هيأها الله لهم.. وأكثرهم فوزا فيها من نال من تلك القيم ما ترفّع به عن كل السفاسف، ونال بدلها كل المكارم.

وأكثرهم فوزا فيها من تجاوز العقبات والمطبات التي وضعت في الطريق.. والتي لا يجاوزها إلا أصحاب الهمم العالية، والاجتهاد الصادق.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) } [البلد: 11 – 18]

وذكر كذلك الجوائز القيمة التي ينالها السابقون، والتي تختلف كثيرا عن جوائز المتأخرين المتخلفين، فقال: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } [المطففين: 22 – 28]

فالعين التي يشرب بها المقربون، تختلف عن العين التي يشرب بها الأبرار، والنعيم الذي يجده أهل اليمين غير النعيم الذي يجده المقربون.. وإن كان كلاهما في الجنة، ذلك أن الجنة درجات كثيرة، والتفاوت بينها عظيم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف، كما تراءون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع، في تفاضل أهل الدرجات)، فقالوا: يا رسول الله، أولئك النبيون؟ فقال: (بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل) ([1])

بل إن الله تعالى ذكر ذلك في القرآن الكريم، وأشار إلى أن التنافس في درجات الآخرة أعظم من التنافس في درجات الدنيا، فقال: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21]

فارفع همتك يا بني لأن تكون من أولئك المُنعم عليهم الذين تحقق لهم الفوز بالدرجات العالية في الوقت الذي ظفر فيه غيرهم بما هو دونها بكثير.. لقد ذكرهم الله تعالى، فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]

وأول علامات هؤلاء أن تكون منازلهم قريبة من منازل المكرمين بالقرب الإلهي من الرسل والأنبياء والأولياء.. وقد ورد في الحديث أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله متى قيام الساعة؟ فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلاة، فلما قضى صلاته قال: أين السائل عن قيام الساعة؟، فقال الرجل: أنا يا رسول الله قال: ما أعددت لها؟ قال: يا رسول الله ما أعددت لها كبير صلاة ولا صوم إلا أني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت) ([2])

فانظر إلى هذه الهمة العالية التي جعلت الرجل لا يكتفي بأداء شعائر الدين التي كلف بها، وإنما يضيف إليها تلك المحبة المقدسة التي جعلته مرتبطا بالدين بقلبه وروحه ووجدانه، وليس بجسده فقط.

وانظر معها إلى همة ذلك الصحابي الذي قدم بعض الخدمات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأراد أن يكافئه عليها، فقال له: اسألني.. وكان في إمكانه أن يسأله عما يشاء من شؤون الدنيا، لكنه قال له: إني أسألك مرافقتك في الجنة.. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متثبتا: أو غير ذلك، قال: هو ذاك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) ([3])

أرأيت كيف أكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم همته العالية، لكنه أخبره أن تلك الهمة تحتاج إلى المزيد من العمل، مثلما يحتاج من يريد الفوز بالريادة في المسابقات إلى بذل الكثير من الجهد.

فالقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو التحقق بالفوز الأعظم، ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم هو أول الفائزين في سباق الحياة.. ومن قرب منه كان حريا بالفوز فيها، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولئك الذين نالوا القرب منه، ودرجاتهم، فقال: (إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة: الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون) ([4])

فلذلك يمكنك أن تتجاوز يا بني كل الأزمنة والأمكنة، لتظفر بمعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والقرب منه، فهو ليس محصورا في زمان دون زمان، ولا في مكان دون مكان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله: (أرأيت من آمن بك ولم يرك وصدقك ولم يرك؟)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (طوبى لهم، ثم طوبى لهم، أولئك منا، أولئك معنا) ([5])

بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر ما هو أعظم من ذلك، حيث قال: (من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله) ([6])، وقال: (إن أشدَّ أمتي لي حبا قوم يكونون بعدي يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني) ([7])

فارفع همتك يا بني لأن تكون من هؤلاء، لتفوز بأعظم جائزة في الحياة جميعا.. حياة الدنيا والآخرة.. وهي القرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو البطل الحقيقي.. بل هو أعظم أبطال الدنيا.. ومن الغريب أن تتعلق بجميع أبطال الدنيا، ثم لا تتعلق به، فلا ينال المكارم إلا من تعلق به بكل كيانه..


([1])  رواه أحمد (2/ 339)، والترمذي برقم (2556)

([2])  رواه البخاري (3688)، ومسلم (2639)

([3])  رواه مسلم (2/ 52) (489)، وأبو داود رقم (1320)، و النسائي 2/ 227.

([4])  رواه الترمذي (2018)

([5])  رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 67)

([6])  رواه أحمد 5/ 170

([7])  رواه أحمد 5/ 170

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *