لهو

لهو

لا تتوهم يا بني أني عندما أدعوك إلى الجد والاجتهاد وأخذ كتاب حياتك بقوة، أني أنهاك عما فُطرت عليه من حب اللهو واللعب والاستجمام والراحة.. فمعاذ الله أن أحرم عليك ما أحله الله لك.. ومعاذ الله أن أتدخل بهواي في الفطرة التي فطرك الله عليها؛ فأغيرها وأبدلها، فما صارع الفطرة أحد إلا صرعته، ولا غالبها إلا غلبته، ولا شاد أحد الدين إلا غلبه.

ولكني يا بني أدعوك إلى أمرين يحميان لهوك من أن يصبح حبلا من حبال الشيطان يدليه لك ليجرك إلى حزبه.. فاسمع حديثهما من أبيك الحريص عليك.. فهو لم يستفدهما بالبحث والنظر، وإنما استفادهما من كلمات ربك المقدسة، ومن الحكماء الذين عبروا عن مقاصدها، وبينوا أغراضها.

أما أولها.. فأن تعطي للهوك بعض وقتك .. لا كل وقتك.. فإن الله تعالى ما خلقك لتلهو وتلعب، وإنما خلقك لتجاهد نفسك في سبيله، حتى تحقق لها مكارمها، وترقى بها إلى الكمالات التي أتاحها لها.

فلذلك اجعل لهوك مثل نومك، لا تلجأ إليه إلا بعد تعبك.. ومثل طعامك لا تلجأ إليه إلا بعد جوعك.. ومثل شرابك لا تلجأ إليه إلا بعد ظمئك.. فليس النوم ولا الطعام ولا الشراب إلا من ضرورات الحياة التي من تناولها بقدرها استفاد منها، ومن أسرف فيها أضرت بحياته وصحته.

ولهذا قال الله تعالى آمرا بالأكل والشرب، وناهيا عن الإسراف فيهما: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]

ولو أنك تأملت يا بني معنى هذه الآية، ومعنى النهي عن الإسراف لوجدت رحمة الله تعالى في نهيه عنه.. فالإسراف يرفع من الأشياء بركتها وقيمتها، ومن أسرف  في أكل شيء ذهبت عنه لذته، لزوال بركته عنه.. ولذلك كان الأكل بعد الجوع ألذ للطعام من الأكل بعد الأكل، ومن غير حاجة.

وهكذا الأمر بالنسبة للهو واللعب؛ فإنه إن استغرق كل أوقاتك، لم تخسر أوقاتك فقط، وإنما خسرت لذتك في ذلك اللهو واللعب، حيث يصبح شيئا لا قيمة له، ولا تأثير له في نفسك، مثل ذلك الطعام الزائد الذي قد يضرك أكثر مما ينفعك.

ولهذا ورد في حكم الأنبياء والأولياء برامج تحدد مواقيت الجد واللعب، فاستفد منها، ونظم حياتك على أساسها، ولا تدعها لكل أولئك الغافلين الذين يريدون أن تخرج من الدنيا، وأنت خالي الوفاض من كل المكارم، فارغ الجيوب من كل الأجور.

فقد ورد في صحف إبراهيم عليه السلام: (على العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له أربع  ساعات: ساعة يناجي فيها ربه عز وجل، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيما صنع الله عز وجل إليه، وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال فإن هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب وتوزيع لها) ([1])

وورد في حكمة آل داود عليه السلام: (عبرة للعاقل اللبيب أن لا يشغل نفسه إلا في أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يلقى فيها إخوانه الذين ينصحونه في نفسه ويخبرونه بعيوبه، وساعة يخلو بين نفسه وبين ربها فيما يحل ويجمل فإن في هذه الساعة عونا على هذه الساعات) ([2])

وحدث الإمام الحسين أنه سأل أباه الإمام علي عن مدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك، فإذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم منه شيئا، وكان من سيرته في جزء الأمة، إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج) ([3])

وهكذا نرى كل الحكماء وأئمة الهدى يدعون إلى تقسيم الأوقات، وتنظيمها، حتى لا يستحوذ الشيطان عليها، فالوقت هو الحياة، ومن ضيع وقته في اللهو واللعب، لم يجد في آخرته ما يأنس به، ولا ما يأنس له، وكان ندمه على التفريط أعظم من كل تلك اللذات التي توهم أنه عاشها.

وقد قال الإمام علي: (للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب نفسه، وساعة يخلي بين نفسه ولذتها فيما يحل ويجمل) ([4]) ، وقال: (إن ليلك ونهارك لا يستوعبان لجميع حاجاتك فاقسمها بين عملك وراحتك) ([5])

واجتهد يا بني في أن تختار لجدك أفضل الأوقات وأحسنها، فأنت بجدك لا بهزلك، وباجتهادك لا بلهوك، وقد قال الإمام علي في كتابه للأشتر : (اجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية) ([6])

وأما الثاني.. فاحذر أن يخالف جدك هزلك، فإن ذلك مثل أكلك للطعام الذي يضرك.. والشراب الذي يؤذيك.. ولذلك جنب هزلك الحرام والشبهات، واحرسه بحدود الشرع، فما جعل الله دواء راحتك فيما حرم عليك.

واعلم يا بني أن الشيطان إن لم يطق أن يوسوس لك في جدك، فإنه يطيق أن يوسوس لك في هزلك، فاحذر أن تدع له الفرصة لذلك، فإن قوما من الناس راحوا يستمعون إلى وساوسه، فحول دينهم لهوا ولعبا.

وقد ذكر الله تعالى ما قاله موسى عليه السلام لقومه حين خلطوا لهوهم ولعبهم بدينهم، فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة:67)

بل إن الله تعالى حذرنا من اتباع سبل أولئك المستهزئين بدين الله، الذين راحوا يستعملونه مادة للضحك واللعب، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أو تُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أو لِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} (المائدة:57 ـ 58)

وأخبر عن المصير الذي أعده لهؤلاء المستهزئين، فقال: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} (الكهف:106)

لا تحسب أن هذا خاصا بأقوام الأنبياء، بل هو عام في كل العصور.. فأنت ترى تلك الأساطير التي وضعت في حق الأنبياء لتشوه حياتهم وقيمهم ودينهم، ولم يكن القصد منها إلا اللهو واللعب، وقد قال تعالى محذرا منها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [لقمان: 6]

وهكذا تلك المسلسلات والأفلام والروايات التي تشوه النبوة، أو تشوه قيم الدين، أو تسخر منه.. فاحذر منها، فهي مادة الوسوسة التي ينطلق منها الشيطان ليحول دينك إلى دينه، ويصرفك عن دين الله الذي جاءت به رسله، لقد قال الله تعالى يذكر هؤلاء: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (التوبة:65)

واحذر يا بني من كل لهو يسيء إلى أخلاقك، ويرفع عنك الحياء، أو يجعلك ترى ما حرم عليك النظر إليه، أو تستمع إلى ما حرم عليك الاستماع له.. فإن ذلك اللهو سيمر على كل القيم النبيلة التي اكتسبتها في ساعات جدك، فيحرقها، ويدمرها، ويصبح لهوك حينها عدوك الذي يقضي عليك.

ولا تذكر بعد هذا يا بني ما يذكره الغافلون من أن هذا تضييق لمجال اللهو واللعب.. فيستحيل على فضل الله أن يضيق.. ولكن الشيطان هو الذي يوهمهم ذلك، ويصور لهم أن اللهو لا يكون إلا في الحرام وبالحرام.

مع أنك لو بحثت يا بني عن مجالات اللهو المباح لوجدتها كثيرة جدا، يمكنك اقتناصها والاستفادة منها لجدك وهزلك.. وإلا فسيغير هزلك على جدك، ويحطم كل المكاسب التي كسبتها، أو القيم التي اجتهدت في تحصيلها.


([1])  الخصال: ٢ / ٥٢٥.

([2])  كنز العمال: 5381.

([3])  بحار الأنوار: 16 / 150 / 4.

([4])  غرر الحكم: 7370.

([5])  غرر الحكم: ٣٦٤١.

([6])  نهج البلاغة: الكتاب ٥٣.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *