صور

صور
لعلك ـ يا بني ـ شاهدت ذلك الاهتمام الشديد من البشر بعالم الصور.. وهو من العوالم التي اقتضاها اسم الله المصور.. ولولاه لم يكن لهذا العالم وجود.. فكل صورة في الكون من تصوير الله.. كان ذلك في البشر أو في الحجر أو في الشجر.. وكان ذلك التصوير جميلا أو دميما.. فكل صورة في الكون ترجع للبارئ المصور الذي اختار لها ذلك الشكل، وتلك التقاسيم.
ولذلك احذر أن تحجبك الصور عن المصور.. أو تحجبك الأشكال عن مبدعها الذي أبدعها على ذلك الشكل، وكان في إمكانه ولا يزال تحويلها إلى أي شكل شاء، أو أي صورة أراد.
لعلك قرأت في ذلك قوله تعالى، وهو يخاطب الإنسان الممتلئ بالغرور: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 – 8]
أتدري يا بني لم ربط الله تعالى الصور بالغرور.. ولم نبه أولئك المغترين إلى أن عالم الصور بيده.. وأنه هو الذي يصور من يشاء كيف يشاء؟
إن الله ربط ذلك بذلك تنبيها إلى تلك الجاهلية الأولى التي كانت تميز الناس على أساس أشكالهم وألوانهم وهيئات أبدانهم.. وهي نفس الجاهلية التي نشأ عنها الاستعمار والاستكبار وكل أصناف الظلم.. وهي لا تزال سارية في أولئك الذين يعبدون الصور، ويملأون بها صفحات الجرائد والمجلات وواجهات المحلات.. لتُعبد جميعا من دون الله.
وهي لا تزال سارية في تلك المحلات الكثيرة التي أنشئت لتغيير خلق الله، والتي اُستغل بسببها الطب وعلوم كثيرة، لتحويل الشيوخ إلى شباب، والعجائز إلى صبايا.. وكأن الحياة ليس سوى تلك الصورة الحسية التي اختصرت فيها، وجثا الخلق راكعين وساجدين بين يديها.
فلذلك ارحل يا بني من كل هذه العوالم الممتلئة بالعُقد.. لترى حقيقة عالم الصور.. وتخرج من الأوهام المرتبطة بها..
فما تراه من صور ليس سوى أقنعة للروح.. وهي أقنعة قد تكون متناسبة معها، أو لا تكون متناسبة معها.. فلذلك لا يغرنك جمال المظهر، فتغفل عن المخبر.. وتذكر قول الشاعر:
على وجه مي مسحة من ملاحة… وتحت الثياب العار لو كان باديا
ألم تر أن الماء يخبث طعمه… وإن كان لون الماء أبيض صافيا
بل تذكر قوله تعالى، وهو يصف المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [المنافقون: 4]
والمنافقون ليسوا أولئك الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط.. بل هم موجودون في كل الأزمنة.. فكم سعى الخلق خلف خطباء النفاق والفتنة، أو علماء الدجل والبهتان، لا لأثارة من علم، أو بقية من حكمة، وإنما لصباحة في وجوههم، وفصاحة في ألسنتهم.. فسقوهم منها كل ألوان الكدر والضلالة.
فاحذر أن تغفل بالصورة عن الحقيقة.. فالله ما خلق الصور في هذا العالم إلا ليختبرنا بها.. هل نرى الحقائق، ونكتفي بها.. أم نسعى بأهوائنا إلى تلك الصور التي زينت لعيوننا، فنحجب بها عما يختبئ خلفها من الحقيقة؟
احذر يا بني أن تفقد آخرتك بتلك الزينة التي زينت بها تلك الصور.. أو الفتنة التي وضعت فيها.. فهي كيد الشيطان الأعظم، وأحبولته الكبرى، ومصيدته العظمى.
تذكر عند كل صورة جميلة تراها، وتخاف أن تسلب عقلك منك أنها ليست سوى قناع، ستذهب به الأيام، وأن صورة الحقيقة هي التي تبقى، وما عداها سيفنى.
وتذكر معها أن عالم الصور الحقيقي لن يبدأ في هذا العالم، ولا في هذه النشأة.. فهي نشأة اختبار وبلاء.. ومن مقتضياتها عدم انسجام الصور مع الحقائق، حتى يتحقق الامتحان… أما في العالم الآخر.. والنشأة الأخرى.. فالصور منسجمة مع حقائقها، والأشكال منسجمة مع الطبائع التي اكتسبها أصحابها.
ولتعرف حقيقة ذلك يا بني اقرأ ما ورد في كلمات الله المقدسة، لتعلم أن الانسجام بين الحقائق والأشكال قانون من قوانين الآخرة..
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه وصف المستكبرين الظلمة، أولئك الذين قد تكون أقنعتهم الجميلة في الدنيا هي سبب كبرهم وغرورهم وظلمهم، فقال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر([1]) في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان)([2])، وفي رواية: (يبعث الله يوم القيامة ناساً في صور الذر يطؤهم الناس بأقدامهم، فيقال: ما هؤلاء في صور الذر؟ فيقال: هؤلاء المتكبرون في الدنيا) ([3])
هل رأيت يا بني هذه الصورة البشعة التي هي حقيقة كل مغتر ومتكبر بجماله أو صورته أو أي شيء منه.. إنه سيكون قصيرا حقيرا يشبه ذلك النمل الذي كان يدوسه في الدنيا بقدميه.
فلذلك كن موقنا أن كل أولئك الذين يتباهون بجمالهم، ويسخرون من دمامة غيرهم، سيكون هذا هو حالهم في تلك الحياة الأبدية.. فلذلك لا تنتظر حتى تراهم على تلك الحال في الآخرة.. بل انظر إليهم بها في الدنيا، حتى لا يجعلهم الشيطان مصايد يصطاد بها عقلك وقلبك وحقيقتك.
وهكذا يذكر القرآن الكريم أولئك الذين عبدوا وجوههم في الدنيا من دون الله.. ووقفوا أمام المرائي خاشعين لها.. مكتفين بالصلاة لها عن الصلاة لله، بأنهم سيسيرون يوم القيامة على تلك الوجوه.. لأنها كانت سبب الحسرة العظيمة التي حصلت لهم.. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 34]
وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد أن رأى استغراب بعضهم في ذلك ـ فقال: (أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟)([4])
فاحذر يا بني أن تكون وجهتك وجهك، وقبلتك صورتك، فيحصل لك ما حصل لهؤلاء.. بل اجعل وجهتك الحقيقة، وقبلتك نحو ربك.. فهو المصور الذي اختبرك بالصور.. وصورتك من بين الصور.. وإن لم تعجبك في هذا العالم، فيمكنك أن تجد ما هو أجمل منها في ذلك العالم.. وفي تلك الحياة الأبدية.
فالصور في ذلك العالم، وفي الحياة الأبدية من صنع البشر.. فعلى أساس حقائقهم تكون صورهم، وعلى أساس أخلاقهم تكون خلقتهم.. فاسع لأن تكون صورتك هناك أجمل الصور.. فذلك العالم هو الحقيق بجهدك واهتمامك.. لأنه مستقبلك، وما الدنيا سوى مرحلة ستجتازها بأي صورة تكون عليها.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22 – 25]
وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} [عبس: 38 – 40]
وقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106، 107]
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن في الجنة سوقا خاصة بالصور، وأن أي شخص يرغب في أي صورة يريد أن يكون عليها، يُحقق له طلبه من غير أطباء، ولا عمليات تجميل.. بل مجرد الرغبة في الصورة تجعله مصورا بها.. وكيف لا تجعله كذلك، وهو يرى تجليات اسم الله المصور في كل شيء.
فلذلك اعرف الله المصور.. واحذر من فتن الشيطان المرتبطة بالصور، فقد هدد بني آدم فقال: { لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } [النساء: 118، 119]
ولن يكون لك ذلك إلا إذا عرفت حقائق الأشياء.. وانشغلت
بمعرفتها عن الأشكال التي تكون عليها.. فالشكل قد يمثل الحقيقة، وقد يكون حجابا
دونها.
([1]) قدرٌ ضئيل جدًّا، بالغ الصِّغر، مُثِّل بالنملة الصغيرة أو برأس النملة أو الهباءَة المنبثّة في الهواء ويمكن رؤيتها في شعاع الشّمس الداخل من النافذة.
([2]) رواه الترمذي (2492)، وأحمد (2/ 179) (6677)، والبخاري في (الأدب المفرد) (557). قال الترمذي: حسن صحيح
([3]) رواه البزار كما في (مجمع الزوائد) (10/ 337)
([4]) رواه البخاري (6158)، ومسلم (7265)