همم

همم

لقد رأيتك اليوم يا بني تحدث قوما عن الهمة العالية، وأعجبني حديثك كثيرا، لكن ما ذكرته من مصاديق عن تلك الهمة لم يعجبني.. وربما لن يعجبك أيضا إن عرفت سبب ذلك، وحدثتك عما ورد في النصوص المقدسة عنه.

لا أريد أن أعيد عليك ما ذكرته؛ فأنت أدرى به مني، وأحسبك أخذت ما ذكرته من تلك الكتب الكثيرة التي تتحدث عن الهمم، وتذكر خلال حديثها عنها الفقراء الذين اغتنوا، والبسطاء الذين اشتهروا، والمهملين الذين صار لهم قيمة وجاه.

وكان لها أن تكون ذات قيمة علمية أكثر لو ذكرت أولئك الذين افتقروا بسبب حرصهم على الحق والخير.. أو أولئك الذين آثروا الخمول على الشهرة حرصا على دينهم.. أو أولئك الذين آثروا المناصب الوضيعة على الرفيعة حرصا على طهارة نفوسهم، وخوفا من تدنسها.

كان لها أن تذكر أولئك الذين آثروا الحق على الباطل.. فأصابهم من إيثارهم له ما أصاب الأنبياء والأولياء من ضيق العيش وكدر الدنيا وتغير الناس..

كان لها أن تذكر موسى عليه السلام الذي ترك جاه فرعون، وراح يبحث عن جاهه عند الله.. وترك قصر فرعون، وما فيه من الخدم والحشم، ليسير خائفا مترقبا إلى مدين، ويصبح راعي غنم، بعد أن كان معدودا في حاشية فرعون المقربين.

وكان لها أن تذكر ذلك الصحابي الجليل مصعب بن عمير الذي  ترك العز الذي يعيشه، ليلتحق بالإسلام، وهو في عز شبابه، ويتحمل الأذى بسببه، ومن أقرب الناس إليه .. ذلك الذي كان يبالغ في اهتمامه بمظهره وزينته وشعره قبل الإسلام، وكانت أمه الثرية تكسوه أحسن الثياب وأرقها، وتعطره بأجمل العطور وأغلاه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول عند ذكره له: (ما رأيت بمكة أحدا أحسن لمة، ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير) ([1])

لكن ذلك كله فارقه بعد إسلامه، فقد جهد ـ كما يذكر الرواة عنه ـ جهدا شديدا حتى إن جلده كان يتحشف كما يتحشف جلد الحية.. وقد روي أنه أقبل ذات يوم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم جالس في أصحابه، عليه قطعة نمرة قد وصلها بإهاب، فلما رآه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نكسوا رؤوسهم رحمة له، ليس عندهم ما يغيرون عنه، فسلم فرد عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأحسن عليه الثناء وقال: (الحمد لله ليقلب الدنيا بأهلها، لقد رأيت هذا (يعني مصعبا) وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه نعيما منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير، في حب الله ورسوله) ([2])

وكان لها أن تذكر سلمان المحمدي.. ذلك الذي ترك العز والجاه الذي كان يعيشه في ظلال والده الدهقان.. ثم سار في الأرض باحثا عن الحقيقة إلى أن وجدها، بعد أن ابتلي بالعبودية في سبيلها.. وبعد أن وصل إليها عاش زاهدا متواضعا.. ولم يتاجر بالحق الذي ضحى في سبيله.. ولم ينل من المكاسب إلا ما امتلأ به قلبه من الإيمان، ولسانه من الحكمة.

وقد روي أنَّ سعدا دخل عليه يعوده في مرض موته، فبكى سلمان، فقال له سعد: ما يبكيك؟ تلقى أصحابك، وترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحوض، وتُوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنك راضٍ، فقال: (ما أبكى جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا؛ ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إلينا فقال: (ليكن بُلْغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب)، وهذه الأساود حولي ـ ولم يكن حوله حينها سوى مِطْهرة أو إِنجانة ونحوها.. عندما رأى سعد ذلك تأثر كثيرا، ثم طلب منه أن ينصحه، فقال: (اذكر ربَّك عند همَّك إذا هممت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت) ([3])

هذه هي نماذج الهمم العالية التي افتقرت بعد الغنى، وذلت بعد العز، وضحت في سبيل روحها بكل ما يتطلبه جسدها من الراحة والعافية والسكون.

أما تلك التي اغتنت بعد فاقة.. أو عزت بعد ذل.. أو اشتهرت بعد خمول.. فقد لا يكون الحق أو الخير هو الذي أوصلها لذلك.. وإنما وصلت إليه بمعاندة الحق، واتباع سلوك أهل الباطل، ولذلك لم تكن جديرة بأن تكون أسوة لغيرها..

وقد ورد في الحديث أن رجلا مر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لبعض من عنده يختبره: ما رأيك في هذا؟ فقال الرجل: هذا (رجل من أشراف النّاس، هذا والله حريّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفّع)، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ مرّ رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما رأيك في هذا؟) قال: (يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفّع، وإن قال أن لا يسمع لقوله)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا) ([4])

وفي حديث آخر ذكر صلى الله عليه وآله وسلم قصة تبين معايير الهمم، ومدى الأخطاء التي يقع الناس فيها، فقال: (بينا صبيّ يرضع من أمّه، فمرّ رجل راكب على دابّة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمّه: اللهمّ اجعل ابني مثل هذا، فترك الثّدي وأقبل إليه فنظر إليه، فقال: اللهمّ لا تجعلني مثله، ثمّ أقبل على ثديه فجعل يرتضع.. ومرّوا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت، سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمّه: اللهمّ لا تجعل ابني مثلها، فترك الرّضاع ونظر إليها، فقال: اللهمّ اجعلني مثلها، فهناك تراجعا الحديث، فقالت: مرّ رجل حسن الهيئة فقلت: اللهمّ اجعل ابني مثله، فقلت: اللهمّ لا تجعلني مثله، ومرّوا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت، سرقت، فقلت: اللهمّ لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهمّ اجعلني مثلها، قال إنّ ذاك الرّجل كان جبّارا، فقلت: اللهمّ لا تجعلني مثله، وإنّ هذه يقولون لها زنيت ولم تزن، وسرقت ولم تسرق، فقلت: اللهمّ اجعلني مثلها)([5])

لذلك كان المعيار الحاكم في الهمم هو الصلاح، وليس تلك المناصب الرفيعة التي لا تغني عن أصحابها شيئا إن افتقرت أرواحهم إلى الإيمان أو الأخلاق أو التوجه بالكلية لعالم الحق والخير.

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أن أولئك الذين توهم الناس رفعة مناصبهم ليسوا سوى عبيد لها، انتكسوا عن حقيقة إنسانيتهم، والكرامة المرتبطة بها، ليقعوا في ذلة الروح وهوانها، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تعس عبد الدّينار وعبد الدّرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرّة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في السّاقة كان في السّاقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفّع)([6])

وذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نموذجا عن هؤلاء الذين ارتفعت هممهم إلى إنسانيتهم الرفيعة المكرمة، فقال: (ربّ أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه) ([7])

فصحح يا بني نظرتك إلى الهمم، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون، أولئك الذين يرون ظواهر الأشياء، ويغفلون عن بواطنها، وينظرون إلى الدنيا، ويغفلون عن الآخرة، ويكتفون بالعاجل عن الآجل.. مع أن العاقل هو الذي يبحث في النهايات، ولا تغره البدايات.. والمنتصر هو من يضحك أخيرا.. لا ذلك الذي يدفع في هزيمته كل ما كسبه فيما توهمه من انتصارات.


([1])  ابن سعد، الطبقات الكبرى: 3/ 116

([2])  المرجع السابق،  3/ 82.

([3])  رواه ابن ماجة، 4104، وأبو نعيم في الحلية، حياة الصحابة (2/ 545)

([4])  قال الهيثمى فى مجمع الزوائد (8/ 83): رواه البزار واسناده حسن، وقال المنذرى فى الترغيب (3/ 561) ، وقال: رواه الطبرانى والبزار وإسنادهما حسن.

([5])  البخاري- الفتح 6 (3436) ، مسلم (2550) واللفظ له.

([6])  البخاري- الفتح 6 (2887)

([7])  مسلم (2622)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *