نيران

لا شك أنك ـ يا بني ـ رأيت تلك النيران التي التهمت غابات كثيرة، وفي مناطق مختلفة من العالم هذا الصيف.. ولاشك أنك عرفت أن سببها يعود إلى بعض أعواد ثقاب أشعلها بعض المستهترين لطعام يأكلونه، ثم نسوا أن يطفئوه؛ فتحول إلى خراب ودمار.
هكذا تفعل الذنوب التي يقوم بها المستهترون، ثم يغفلون عن إطفائها بدموع الندم والتوبة.. فتسرع رياح الإصرار لتحول منها حرائق هائلة تدمر الشجر والحجر والبشر.. وتدمر معها كل المعاني النبيلة.
لذلك لا تستهن يا بني بتلك النيران الخفية التي توقدها أعواد ثقاب المعاصي، فكما أن نفس الإنسان يمكن تطهيرها ببعض المجاهدات البسيطة، يمكن كذلك أن نحرقها ببعض المعاصي التي قد نحتقرها.
فلا تحتقر الذنوب، فاحتقارك لها احتقار لمن تعصيه بها.. واحتقارك لها أخطر منها.. وقد قال الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر … ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها … فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها … في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته … لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
وقد قال ـ قبل ذلك ـ سيد الحكماء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن استصغر الذنوب التي يقوم بها اللسان: (ثكلتك أمك.. وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟)([1])
وقال لعائشة عندما أشارت بيدها إلى قصر صفية: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)، وقال لها عندما حكت إنسانا: (ما أحبّ أنّي حكيت إنسانا وأنّ لي كذا وكذا) ([2])
هل رأيت ـ يا بني ـ كيف تفعل أعواد الثقاب في الغابات.. كذلك تفعل الذنوب بحقيقة الإنسان.. فكل ذنب يطبع طابعه في القلب والنفس والروح.. ليملأها بالغشاوة.. ثم تتراكم الذنوب لتتحول بصيرة الإنسان إلى العمى المطبق الذي لا يبصر الحقائق، وكيف يبصر من وضع على عينه الغشاوة، وعلى قلبه الحجب؟
لقد أشار الله تعالى إلى ذلك، عندما أخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن نفوس المشركين والمجادلين والمعترضين.. وأنها لا تملك من الأدلة على اعتراضها أي أثارة من عقل أو علم، وإنما كل ما حصل لها بسبب الذنوب التي كدرت صفو بصيرتها، فامتلأت بالعمى، وهل يمكن للأعمى أن يبصر؟
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، ثم بين آثار ذلك الران على العلاقة بين العبد وربه، فقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، فالسبب في ذلك الحجاب ليس من الله، وإنما من عند من ملأوا قلوبهم بأنواع الشبه التي تحول بينهم وبين ربهم.
وقد سبق ذلك قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين: 10 – 13]، وهي تبين أن ذلك الحجاب كان قد صنع في الدنيا بسبب التكذيب والتلفيق والتزوير الذي مارسه المسيئون مع الحقائق والقيم التي جاءتهم بها الرسل عليهم السلام.
لقد وضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيفية ذلك، وعلاقته بأعواد ثقاب الذنوب، فقال: (إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت)([3])
لذلك احذر يا بني من الذنوب، فإن فيها مواد سريعة الاشتعال، وفيها ما يشبه القنابل النووية التي تحبط كل الأعمال.. كما قال تعالى محذرا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الحجرات: 2]
هل رأيت يا بني كيف يفعل مجرد رفع الصوت أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فكيف بمعارضته أو السخرية مما ذكره أو دعا إليه.. فاحذر أن تغلبك نفسك وأهواؤك، فتقع في المعارضة، فيحترق كل ما بنيته في نفسك من مكارم، أو وفرته لنفسك من الأجور.
فالمشكلة يا بني .. ليست في كثرة الأعمال، وإنما في الحرص عليها.. والذي يبني المصانع والمتاجر.. ثم لا يوفر لها الحماية الكافية، ستكون عرضة للصوص ينتهبونها، فيتحول من الغنى إلى الفقر.. ومن الثراء إلى الحاجة.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، وحذر منه، فقال: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 – 105]
لهذا كن ورعا يا بني .. وأسرع كل حين إلى تفقد مصانعك ومتاجرك وأعمالك حتى لا تتسلل إليها أعواد الثقاب التي تحرقها.. أو الفيروسات الدقيقة التي تقتلها.. فالله الذي اختبرك بما يحبط الأعمال، وفر لك ما يحفظها.. والله الذي خلق أعواد الثقاب، وفر الماء الذي يطفئها.. والله الذي خلق الفيروسات والميكروبات وفر لها ما يقتلها.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الفجر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون، فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا) ([4])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لله ملكا ينادى عن كل صلاة، يا بنى آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها، على أنفسكم فأطفئوها) ([5])
وإياك يا بني أن تفهم من هذه الأحاديث حروفها دون معانيها.. فتتوهم أن كل الجرائر والذنوب تُكفر بالصلاة.. كلا فالنصوص المقدسة يُفهم بعضها من خلال مجموعها..
وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن شر الناس من يكثر من الصلاة والصيام وقراءة القرآن الكريم، لكنه يستعملها جميعا كأعواد ثقاب ليحرق بها كل شيء.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يخرج في هذه الأمة قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية) ([6])
لذلك الزم الورع في كل شيء.. واصغ لمن يحذرك، ولا تصغ لمن يملأك بالغرور الكاذب.. فلأن تلقى من يخوفك إلى أن تجد الأمن خير من أن تلقى من يؤمنك إلى أن تجد المخافة..
فالشيطان والدنيا والأهواء كلها تتربص
بك.. وتريد أن تحرقك.. فكن حذرا.. فما هي إلا أيام معدودة.. لتلقى الله من غيرك أن
تحرقك تلك الذنوب التي لا تحرق إلا من يستهين بها، ويستصغر شأنها.
([1]) رواه أحمد (36/ 345)، و عبد الرزاق (20303)
([2]) رواه أبو داود (4875) ، والترمذي (2632) (2633)
([3]) رواه أحمد (13/ 333) وابن ماجه (4244) ، والترمذي (3334)
([4]) رواه الطبرانى فى الأوسط (2/358، رقم 2224)
([5]) قال في مجمع الزوائد ج 1 ص 299 : رواه الطبراني في الأوسط والصغير.
([6]) رواه البخاري (4/ 243) وفي (8/ 47) ومسلم (3/ 112)