سموم

سموم
ليتك كنت معي اليوم ـ يا بني ـ عند زيارتي للحديقة الجديدة التي أقيمت في بلدتنا.. هي حديقة مملوء بكل أصناف الأزهار الجميلة التي تريك جمال الحياة، وجمال صانع الحياة، وتجعلك ترتبط بالجمال بجميع أبعاده ودرجاته.
لكني ـ أثناء ذلك الإعجاب الشديد ـ لاحظت قسما مكتوبا عليه [قسم الأزهار السامة]، فتعجبت أن تكون الأزهار التي ترمز للجمال والحياة، وسيلة للموت والفناء.
دخلت القسم فوجدت [نبتة الشوكران] بأزهارها الجميلة، مودعة في قفص صلب من الزجاج، حتى لا تمتد إليها الأيادي.. وقد كتب أمامها: (هذه الزهرات هي التي قتلت الفيلسوف الكبير سقراط بعد تناولها بلحظات معدودة)
ووجدت من بينها [زهرة الزنبق] التي تعود الكثير أن يزرعها في الحدائق، أو يضعها في المزهريات، متمتعا بجمالها من غير أن يدرك السموم التي تحويها، هي وفصيلتها جميعا.
ووجدت من بينها [زهرة الدفلى]، وهي زهرة جميلة تعودتُ أن أراها في الحدائق، ولم أعلم إلا حينئذ بأنها مع جمالها تقتل الجمال، ومع حياتها تقتل الحياة.. بل إنها حتى بعد حرقها تنتج بدخانها المنتشر سموما قاتلة.
ووجدت من بينها أزهار [التوت الأبيض]، وهي أزهار تشبه العيون الجميلة.. لكنها مع جمالها، وجمال العيون التي تشبهها شديدة السمية، تقتل كل من يقترب منها.
ووجدت من بينها الزهرة التي نسميها [ست الحسن]، ووجدت مكتوبا أمامها هذا التحذير الخطير: (تحتوي هذه الزهرة على مادة تؤدي إلى هلوسة وصعوبة في التنفس وتشنجات عضلية، ثم تتحول إلى توت سام يؤدي إلى مقتل الأطفال الصغار في حال تناولهم لها)
وهكذا مررت على الكثير من الأزهار التي تمتلئ العيون بجمال منظرها، لكن تمتلئ النفوس بخبث مخبرها..
وقد جعلني ذلك أبحث عن الحكمة الإلهية التي أودعت تلك الزهور تلك السموم.. وبما أن عقلي أقصر وأضعف من أن يعلم الحكم الإلهية جميعا.. فقد اقتصرت منها على ما ينفعني، وينفعك..
لقد علمت أن الله ما خلق لنا الجمال في هذا العالم لنعبر منه فقط إليه، وإلى حقائق الكون، فنمتلئ بالمحبة والسمو الروحي الذي يجعلنا نعيش إنسانيتنا الحقيقية التي سجدت لها الملائكة.. وإنما خلقه أيضا ليختبرنا، ويبتلينا، حتى لا نقع فرائس لتلك السموم التي قد يختزنها بعض ما نراه من جمال.
فذلك الذي أخذت بعقله الخمر، وانتشى بلذتها، وسكر بجمال عبيقها.. قتلته وقتلت عقله وروحه ودمرت معها إنسانيته.. لأنه لاحظ ذلك الجمال المؤقت الذي اصطادته به، ولم يلاحظ تلك السموم المودعة فيها.. ولو أنه وثق في ربه، كما وثق فيمن يحدثه عن السموم المودعة في أزهار الدنيا.. لعلم أن الله ما خلق تلك اللذة إلا ليختبره، هل يختارها، أم يختاره؟
فالله الذي خلق الخمر مملوءة بالسموم في الدنيا.. هو الذي خلقها وبأضعاف لذاتها خالية من السموم في الآخرة.
وهكذا حال الذي يبيع قلبه للصور الجميلة، فيمتلئ عشقا لها، وتمتلئ قتلا له.. فتسقيه من خلال كؤوس عينيه التي لم يغضهما عما حرم الله عليه كل ألوان البلاء، وكل أنواع السموم.. وقد صدق الشاعر حين قال:
كل الحوادث مبداها من النظر … ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها … فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها … في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته … لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
ولذلك كان من رحمة الله تعالى بعباده أن دعا تلك الأزهار الجميلة أن تستر بعض جمالها رحمة بالخلق، فليس كلهم يطيق غض بصره، ولا كلهم يستطيع أن يمنع نفسه من السموم التي تقتلها.. لقد قال الشاعر يصف ذلك:
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا … أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له … توقه إنه يأتيك بالعطب
وقال آخر يصف ما حصل لعينيه من آثار تلك الأزهار الجميلة الممتلئة بكل أنواع السموم:
رماني بها طرفي فلم تخط مقلتي … وما كل من يرمى تصاب مقاتله
إذا مت فابكوني قتيلا لطرفه … قتيل صديق حاضر ما يزيله
وقال آخر:
ومن كان يؤتى من عدو وحاسد … فإني من عيني أتيت ومن قلبي
هما اعتوراني نظرة ثم فكرة … فما أبقيا لي كل من رقاد ولا لب
وقال آخر:
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه … فمن المطالب والقتيل القاتل
بل إن سيد الحكماء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن ذلك، وحذر منه، واعتبره سما قاتلا، فقال: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد له حلاوته في قلبه) ([1])
بل إن الله تعالى حذرنا من ذلك، وأخبرنا أن غض الطرف عن أمثال تلك السموم التي يصل صداها إلى القلب أزكى وأطهر للإنسان، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [النور: 30]
بل إن الله تعالى حذرنا أن نكتفي بجمال المظهر، مع الغفلة عن جمال المخبر في كل شيء، قال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [المنافقون: 4]
فاحذر يا بني أن تأسرك تلك التقاسيم
الجميلة، ولا تلك الأصوات العذبة، أو الروائح العطرة، فتسجنك في سجونها القاتلة..
فأنت لم تنزل لهذه الدنيا لتسجن في الزنازن، وفي جمالها المقيد المحدود.. وإنما
نزلت لترتقي في فضاء الجمال المطلق.. ذلك الذي لا يظفر به إلا من نظر إلى الجمال
الحقيقي، ولم يغره ذلك الجمال المزيف الذي قد يلذ العين أو الأذن أو الحواس.. لكنه
يقتل الروح، ويقتل معها كل لطائف الإنسان.
([1]) قال في مجمع الزوائد ج 8 ص 63 :رواه الطبراني.