الوسيلة العظمى

الوسيلة العظمى

يا رسول الله..

يا من جعلك الله الوسيلة العظمى، والحبل الممدود، وسفينة النجاة..

كيف لا نشتاق إليك، وأنت أشد ضرورة لنا من الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والروح التي نعيش بها؟

بل لولاك لكانت أرواحنا مثل أجسادنا.. مجرد طين وماء وحمأ مسنون..

كيف لا نشتاق إليك، وأنت الذي أعطيت الحياة طعمها ولونها وجمالها..

فلولاك ما أزهر الربيع، وما أشرقت الشمس.. وما تبينت لنا حقائق الأشياء المخبأة في سراديب الظلمات.

لولاك لكان كل شيء مقبرة وموتا، وأشباحا مخيفة..

أنت لنا مثل العينين اللتين لا يمكن أن نرى الألوان، ولا جمال الأشياء من دونهما.

بل أين العينان منك.. وما أبعدهما عنك.. فهما وسيلتنا لذلك الجمال المحدود الذي سرعان ما يذبل.. أما أنت فوسيلتنا إلى الجمال الكامل الحقيقي الدائم الذي لا تستطيع الأيام أن تغيره، ولا الحوادث أن تبدله.

ولذلك أنت لنا العينان الحقيقيتان اللتان لا يمكن أن نرى الكون على حقيقته من دونهما.. فمن لم ير الكون بك عاش أعمى، حتى لو امتلك من أجهزة الإبصار ما يرى به جميع الأفلاك.. دقيقها وجليلها.

وأنت لنا الأذنان اللتان نسمع بهما حقائق الوجود.. ومن مصدر الوجود.. ولولاك لعشنا في عالم الصمت المطبق..

يا رسول الله.. كم يصيبنا الألم عندما نشعر بأولئك الذين تخلو حياتهم منك.. ويلهم كيف يمكنهم أن يعيشوا، وهم لا يرون السراج المنير الذي يضيء لهم في مدلمهمات الظلمات؟

وكيف يمكنهم أن يهتدوا إلى حقائق الوجود.. وهم لا يتأملون في صحيفتك التي جعلها الله مرآة صقيلة لتعرفهم بالوجود.. وحقائقه وقوانيه؟

لقد خرجت اليوم إلى المقبرة.. وكانت موحشة جدا، وعندما رأيتها، وتصورت نفسي في قبر من قبورها.. رأيت الحياة مجرد مزحة ثقيلة.. وأصابني اكتئاب وألم شديد.

لكني عندما توسلت بك.. ورحت أنظر إليها من خلالك.. بدت لي شيئا آخر تماما.. وبدا لي ذلك القبر الموحش جنة غناء.. وبرزت لي آفاق جديدة في الحياة لم يكن عقلي لولاك ليحلم بها، ولا ليعرفها، ولا ليصلها.. حتى الخيال لم يكن ليتطاول للوصول إليها.

بعد أن عدت من المقبرة، ورحت أنظر إلى الحياة كلها من عينيك الجميلتين.. رأيتها شيئا آخر تماما..

لقد كانت سابقا في عيني مفازة للتنافس على المال والجاه والسلطان.. لكنها بفضل عينيك تحولت إلى مفازة للقيم النبيلة والأخلاق الرفيعة والحقائق السامية.

كنت قبل أن أرى الحياة بعينيك أحسد كل أمير أو وزير أو ملك أو صاحب قصر فخم، أو مركب فاره.. لكني عندما رأيتها بعينيك استحالت كل تلك الأشياء مجرد لهو ولعب لا يختلف عن لهو الأطفال ولعبهم.

لقد كانت جل مطالبي من دونك خدمة ترابي ومائي وخلاياي وأنسجتي.. لكني بعد أن عرفتك ترقيت عن عالم الطين إلى عالم العقل والقلب والروح والسر وكل المعارج التي أرحل بها إلى ذلك العالم الأسمى..

بفضلك سيدي.. صرت أشعر أني أتحرك بحركة جوهرية نحو عوالم الكمال التي كنت محجوبا عنها عندما كنت بعيدا عنك، ولم تكن أنت وسيلتي، ولم تكن سفينتك مركبي، ولا دربك دربي.

لكني بعد أن سرت خلفك، ومددت يدي إليك، وإلى حبك.. وامتطيت سفينتك.. رأيت الخلق جميعا غرقى في طوفان الأهواء، يعيشون مثل الصغار، ويموتون مثل تلك البهائم التي لا ترى الحياة إلى في المرعى إلى أن يأتي الجزار ليسلبها منها.

بفضلك سيدي تغيرت نظرتي للكون.. ولنفسي.. وللحياة.. وللعالم.. ولكل شيء..

بفضلك سيدي زالت كآبتي وتشاؤمي ويأسي.. لأن الحياة بعينيك أجمل بكثير.. هي كلها ربيع.. لأن سراجك المنير يضيء عليها..

بل يملؤها بالألوان التي لا يمكن لعيوننا أن تراها.. فلا يمكن أن نراها إلا بعينيك.. مثل ذلك الفلكي الذي لا يمكنه أن يرى الكواكب البعيدة من دون مرصاده..

وأين مرصاد الفلكي منك.. فهو لا يريه إلا حجارة في السماء، أما أنت فنرى بك من العوالم ما لا تطمع جميع مراصد الدنيا في اكتشافه.

وأنت فوق ذلك كله لا ترينا الحقائق فقط، بل تدلنا على الطريق الذي نصل به إلى السعادة الأبدية..

تلك السعادة التي تاهت عنها كل العقول التي تكبرت عن أن تنظر إلى الحياة من منظارك.

فأنت لذلك ـ سيدي ـ منارتنا التي نهتدي بها في الظلمات، وأنت سراطنا المعبد الذي يقينا من الوقوع في المهالك الكثيرة التي وضعت في غير طريقك..

وأنت الذي تمد يديك لمن شاء أن يمسك بهما، حتى يعيش معك، ومع ذلك العالم الجميل الذي دللتنا عليه، وكنت تحزن حزنا شديدا عندما ترى الخلائق معرضين عنك، مكتفين بتلك العيون التي لا يرون بها إلا المراعي والمقابر.

ولذلك ـ سيدي ـ أنت لنا الروح الحقيقية.. فلولاك لكانت أرواحنا مثل أجسادنا مجرد طين وماء وحمأ مسنون.

وأنت لنا العقل الذي نبصر به الحقائق.. ولولاك لكنا مجانين.. لأنا نرى الحقائق خلاف ما هي عليه في الواقع.

وأنت لنا القلب الطاهر الذي نعشق به الحقائق.. ولولاك لغرقنا في حمأة الحب المدنس الذي يرمينا في مستنقعات الأهواء.

ولذلك أنت لنا الحياة الحقيقية.. التي لولاها لعشنا حياة مزيفة، مثل أولئك الذين يعمرون دهرا طويلا، ويتمتعون بمتع كثيرة.. ثم يخرجون من الحياة، قبل أن يكتشفوا أجمل ما فيها..

ولذلك صدق ربك عندما اعتبرك مصدرا للحياة، فقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال: 24]

فأنت سيدي ذلك الداعي الذي ينفخ الحياة الحقيقية في كل من آمن به وأحبه واتبعه.. وبقدر المحبة تكون روح الحياة الجديدة.. التي لا يمكن للإنسان أن يولد الولادة الحقيقة من دونها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *