النبأ العظيم

النبأ العظيم
يا رسول الله.. أيها النبأ العظيم الذي هم فيه يختلفون.
لقد بحثت في تاريخ البشرية، وقلبت صفحات عظمائها، فلاسفتهم، وعلمائهم، وقادتهم، وزعمائهم، ورجال دينهم.. فلم أجد شخصا كان له ذلك التأثير الذي كان لك على الرغم من أنك عشت في بيئة صحراوية بدوية متخلفة عن ركب الأمم التي كانت تعاصرها.
وعلى الرغم من كونك لم تكن مؤيدا بقيصر ولا بكسرى ولا بفرعون.. ولا بأي حاكم يمدك بما تتطلبه الشهرة والجاه من فنون الإشهار.
وعلى الرغم من كونك تعرضت للكثير من الهجمات من قومك الأدنين، ومن غيرهم من الأبعدين.. الذي اجتمعوا جميعا على حربك وتشويهك.. فكتبوا القصائد، ونشروا الجنود، وأعدوا كل أنواع العدة لإطفاء نورك.. ومع ذلك لم تزد الأيام نورك إلا تألقا واشتعالا ولمعانا.
ولم يكن ذلك وحده ما أثار عجبي.. وإنما ذلك التسجيل العجيب لكل مجريات حياتك.. بل حتى لمن حظي بالجلوس إليك وموالاتك، أو خسر بالابتعاد عنك ومعاداتك.. كلهم حفظت أسماؤهم وأنسابهم والكثير من تفاصيل حياتهم.
أما أنت، فقد حفظت لنا حركاتك وسكناتك.. وأقوالك وأفعالك.. حتى ابتسامتك التي كنت ترسلها كل حين.. حفظت لنا، فعرفنا متى ابتسمت، ومتى غضبت.. وما الذي فعلت، وما الذي لم تفعل.
وقد جُند لذلك جنود كثيرون من الرواة والمحدثين والعلماء في كل المجالات.. لا دور لهم إلا ذلك..
وعندما عدت لتاريخ غيرك من الزعماء والعلماء وحتى الأنبياء.. لم أجد إلا شيئا قليلا لا يكاد يذكر أمام ما هيء لك.
فموسى عليه السلام على الرغم من كونه كان محاطا بالكثير من الكتبة، لا نعلم عن حياته ـ حسب الأسفار الخمسة من التوراة ـ إلَّا قتاله وقيادته في الحرب وبسالته فيها، ثم لا نرى بعد ذلك شيئا كثيرا يتعلق بحياته، وكيفية التعامل مع أحوالها المختلفة.
وهكذا لا نجد في الأناجيل تفاصيل كثيرة ترتبط بحياة المسيح عليه السلام، وكيف كان يتعامل مع القضايا المختلفة..
وهكذا لا نجد في سيرة بوذا إلا هجرته لأهله وعياله إلى الصحاري والغابات؛ وكونه لم ير ولده الوحيد مرةً أخرى، وكونه ترك عن كاهله أعباء الحُكْم، وارتضائه للموت أخيرا طريقا للخلاص.
وهكذا عندما عدت للفلاسفة الكبار والقادة العظام لم أجد من اهتم بتفاصيل حياتهم مثلما وجدت من اهتم بكل تفاصيل حياتك.
وعندما رحت أبحث عن أكثر الأسماء شهرة وترديدا، وفي جميع أنحاء العالم، وجدت اسمك هو الاسم الوحيد الذي يردد كل يوم وعلى جميع مآذن العالم، وبصوت عال، وهو ينادي (محمد رسول الله)
أسمعه من على المنارات، وفي القنوات الفضائية، وفي البث الإذاعي.. وأسمع معه ملايين، بل ملايير الحناجر، وهي تصلي وتسلم عليك كلما ذكرت..
عندما سمعت كل هذا رحت أقرأ تلك الكلمات التي أوحاها الله إليك، وأنت في مكة المكرمة، تُكال لك كل ألوان التهم، وتُقذف بكل أنواع السباب، وتُرمى بالحجارة، ويسخر الكل منك.. لكن الله تعالى كان يقول لك حينها مطمئنا: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) } [الشرح: 1، 8]
ثم يقول لك، وأنت في المدينة، وبعد أن تحزبت عليك كل الأحزاب، واجتمع لحربك كل الحاقدين: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 32، 33]، ويقول: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [الصف: 8، 9]
لقد علمت بعد هذا كله المدد الذي كنت تُمد به.. وأنه ليس من الشرق ولا من الغرب.. ولا من العرب ولا العجم.. ولا من المحدثين ولا من الفقهاء.. وإنما من الله.. فالله هو الذي أراد لاسمك أن يقترن باسمه، حتى لا يصل إليه إلا من وصل إليك.
لقد أراد الله أن يسمع بك العالم أجمع.. وأن يبحث عنك العالم أجمع.. ذلك أن من وصل إليك وصل إلى الحقيقة والسراط المستقيم، وفاز بسعادة الأبد.
ولذلك حاول الشياطين أن يسيئوا إلى اسمك، فربطوا ذلك الشعار العظيم [محمد رسول الله] الذي أقض مضاجعهم، بأولئك المغفلين الحاقدين الذين ورثوا دين الفئة الباغية، وأصحاب الملك العضوض.
لقد راحوا يرسمون اسمك على راياتهم السوداء كسواد قلوبهم، والملطخة بالدماء، ليسيئوا إليك، وإلى القيم النبيلة التي تمثلها..
وراح غيرهم يرسمون الرسوم الساخرة، أو ينتجون الأفلام الوقحة، أو يكتبون الروايات البذيئة.. لينزلوك عن ذلك المقام الرفيع الذي أنزلك الله إياه.
ولن يفلحوا في ذلك.. كما لم يفلح القرشيون واليهود والمنافقون ومرضى القلوب.. وكما لم تفلح كل تلك الترسانة من الرواة الذين جندهم سلاطين الفئة الباغية.
فأنت ـ يا سيدي ـ نور الله الذي سيبقى مشعا حتى تنمحي جميع الظلمات.. وحتى يهيمن دينك على الدين كله.. وحتى يتساقط أمامك كل أولئك الدجالين والمشعوذين الذين راحوا يتلاعبون بالحقائق، ويشوهونها.
سيدي رسول الله..
أنا العبد الضعيف الذي يتشرف بأن يكون خادما لنعلكم، بل للتراب الذي تمشون عليه.. أسألك أن تقربني منك، حتى أحظى بنورك الحقيقي الذي يطفئ جميع ظلماتي.. فقد راح الكثير من الدجالين يخلطون نورك بنيران الشياطين ليشوهوا جمال النور الذي جئت به.. فيجعلوا منه نيرانا يحرقون بها الحقائق، ويهدمون بها القيم.
وأسألك ـ سيدي ـ أن أعرفك كما أنت، لا كما صوروك.. فأنت الصفاء والنور والجمال.. وأنت الأخلاق الرفيعة، والقيم السامية.. وأنت الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، وسراط الله المستقيم.. وأنت أنت..