القرآن الناطق

القرآن الناطق
يا رسول الله.. أيها القرآن الحي الناطق..
لقد شاء الله برحمته، ولطفه بعباده، أن يجعلك نموذجا أسمى لكل تلك المعاني المقدسة التي تنزلت في آخر وصاياه وعهوده للبشر.. فمن شاء أن يقرأها قرأها في حروفه.. ومن شاء أن يشاهدها شاهدها في سلوكك وأخلاقك وتلك القيم النبيلة التي كنت تتحرك بها في الأرض، وتتحرك معك فيها حروف القرآن الكريم.
فإن شاء أن يرى عباد الرحمن، أولئك الذين وصفهم الله تعالى بقوله: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) } [الفرقان: 63 – 67] إلى آخر الآيات الكريمة.. وجد كل هذه المعاني متمثلة فيك، وبدرجاتها العالية التي تصلح أسوة لجميع الخلق، وفي جميع الأزمنة.
وهكذا إن شاء أن يرى المخبتين، أولئك الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [الحج: 34، 35]، وجدك أولهم وسيدهم، فأنت صاحب القلب الرقيق الخاشع، الذي تدمع عيناه كلما ذكر ربه.. وقد حدث صاحبك الصادق المخلص ابن مسعود أنك طلبت منه أن يقرأ عليك بعض القرآن، فقال لك: أقرأ عليك وعليك أنزل؟، فقلت له: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري.. فراح يقرأ من سورة النساء حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } [النساء: 41]، التفت إليك، فوجد عيناك تذرفان بالدموع([1]).
وإن شاء أن يرى أولئك الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [الذاريات: 17 – 19]، وجدك في السحر.. بل قبله.. بل في أكثر الليل قائما لربك تناجيه، وتبكي بين يديه ممتلئا بكل قيم الروحانية.
وقد حدثت عائشة عنك، عندما طلب منها أن تحدثهم بأعجب شيء رأيته منك، فبكت، وقالت: (كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي عز وجل، فقلت: والله إني لأحب قربك، وإني أحب أن تعبد لربك. فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، فقال: يا رسول الله، ما يبكيك؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر، فقال: (ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هذه الليلة: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191])([2])
وهكذا كنت تمثل الحقائق القرآنية بسلوكك وأخلاقك وروحانيتك.. حتى يراها الصادقون، فيزدادون طمأنينة وإيمانا.. وحتى يراها المشككون والمرتابون، فيزول عنهم كل ألوان الشك، ووساوسه إن كانوا صادقين في طلبهم.
وكيف لا تزول وساوسهم، وهم يرونك أول من يسارع لتطبيق أحكام ربه.. فإن صام الناس وجاعوا وعطشوا.. لم تكتف أنت بذلك، وإنما تواصل صومك بعد أن يفطروا.. وجوعك بعد أن يأكلوا.
وإن انصرف الناس إلى بيوتهم ليرتاحوا انصرفت أنت إلى ربك تناجيه وتعبده، وتمكث أكثر الليل في صحبته، حتى تورمت قدماك من كثرة القيام، وأشفق عليك أصحابك من طول سهرك في عبادة ربك.
وقد حدث ابن مسعود قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة، فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء! قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه([3]).
وحدث حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المئة، ثم مضى. فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا: إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: (سبحان ربي العظيم) فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: (سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد) ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد، فقال: (سبحان ربي الأعلى) فكان سجوده قريبا من قيامه([4]).
وهكذا كنت في كل المواطن.. أحسن ممثل للحقائق القرآنية التي لا يمكن لأحد أن يتناولها من دونك، أو يزعم أنه يمكن أن يظفر بها من غير أن يمر على بابك.. فأنت باب القرآن.. وأنت الممثل لحقائقه..
وقد عرف من عاش مع ذلك، ولذلك كان أحسن تعريف مختصر لك عندهم هو أنك نفس قيم القرآن وأخلاقه ومعانيه؛ فيكفي من أراد أن يراك أن يقرأ ما ورد في سور القرآن الكريم عن المؤمنين وأخلاقهم وقيمهم.
وقد سئلت عائشة عن خلقك، فقالت في كلمة مختصرة: (كان خلقه القرآن)([5])، ثم قالت للسائل: (أما تقرأ القرآن قول الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4])
وقرأ ابن مسعود الوصايا الواردة في آخر سورة الأنعام، ثم قال: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات)([6])
ولذلك كان القرآن الكريم أحسن معرف بك،
وأفضل مؤرخ لك.. وكان المرجع الوحيد في الرد على كل الدسائس التي حاول أصحاب الملك
العضوض إلصاقها بك لتشويه الدين وتحريفه، وتحويلك من ذلك المقام السامي الذي وصفك
به القرآن الكريم إلى تلك الهوة السحيقة التي أنزلوك إليها بأهوائهم وأمراضهم
وتدليسهم.
([1]) البخاري- الفتح 8 (4582) . ومسلم (800)
([2]) البخاري- الفتح 3 (6463) ، ومسلم (2816)
([3]) البخاري 2/ 64 (1135)، ومسلم 2/ 186 (773) (204)
([4]) رواه مسلم 2/ 186 (772) (203)
([5]) رواه مسلم: 1/ 746.
([6]) تفسير ابن كثير (3/ 359)