العفو الحليم

العفو الحليم

يا رسول الله.. يا من أدبه ربه فأحسن تأدبيه، ورباه فأحسن تربته.. وكان من تأديبه له قوله: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]، وقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89]

لقد رحت أقرأ هذه الكلمات المقدسة في سفر حياتك؛ فوجدتها منطبعة بحروفها في كل لحظة من لحظاتها.. أو موقف من مواقفها.. حتى تلك المواقف الشديدة التي تهتز لها القلوب.. ويأبى الطبع إلا أن يغلب صاحبه فيها.. لكنك ـ يا سيدي يا رسول الله ـ كنت تملك زمام نفسك، وتواجهها بما أدبك ربك من الصفح الجميل.

لا أزال أرى بعيني ذلك الأعرابي الذي راح يدنس المسجد.. فهم به الأصحاب لينهروه.. لكنك نهرتهم بكل لطف.. وقلت لهم بكل هدوء: (دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء أو سجلا من ماء فإنّما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين) ([1])

ولا أزال أرى بعيني ثمامة بن أثال، ذلك الذي حاربك، فلما تمكنت منه، وأصبح أسيرا لديك، خرجت إليه، وقلت له: (ما عندك يا ثمامة؟) فقال: (عندي خير يا محمّد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر. وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت).. فأطلقته من غير أن تطالب بفدية ولا مال .. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثمّ دخل المسجد، وقال مخاطبا لك، بعد أن أسرت قلبك بصفحك وجميل أخلاقك: (أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه. يا محمّد، واللّه ما كان علي الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ. واللّه ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدّين إليّ. واللّه ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ) ([2])

ولا أزال أرى ذلك الذي سل سيفه عليك، ليقتلك، فلما تمكنت منه بفضل الله عفوت عنه، وتركته يعود إلى أهله من غير أن تفرض عليه أن يصحبك، أو أن تكرهه على الإسلام.. لقد حديث حديثه جابر بن عبد الله، فقال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل نجد، فلمّا قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتفرّق النّاس يستظلّون بالشّجر. فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة وعلّق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابيّ فقال: (إنّ هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك منّي؟ فقلت: (الله) (ثلاثا)، ولم يعاقبه وجلس) ([3])

ولا أزال أرى أولئك اليهود والمنافقين الذين كانوا يسخرون منك كل حين، فلم تكن تبادلهم إلا بصفحك الجميل، وقد روي عن عائشة أنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: (السّام عليكم)، فهمتها، فقلت: (وعليكم السّام واللّعنة)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مهلا يا عائشة، إنّ الله يحبّ الرّفق في الأمر كلّه)، فقلت: يا رسول الله، أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قد قلت: وعليكم) ([4])

ولا أزال أرى ذلك الموقف الذي اختبرك فيه بعضهم، ليتقين من نبوتك.. وقد حدث عنه عبد الله بن سلام قال: إن الله تبارك وتعالى لما أراد هدى زيد بن سعنة، قال زيد بن سعنة: إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحجرات، ومعه علي بن أبي طالب، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله، قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت أخبرتهم أنهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغدا، وقد أصابهم شدة وقحط من الغيث، وأنا أخشى، يا رسول الله، أن يخرجوا من الإسلام طمعا كما دخلوا فيه طمعا، فإن رأيت أن ترسل إليهم من يغيثهم به فعلت، قال: فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل جانبه، أراه عمر، فقال: ما بقي منه شيء يا رسول الله، قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه فقلت له: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمرا معلوما من حائط بني فلان إلى أجل كذا وكذا؟ فقال: لا يا يهودي، ولكن أبيعك تمرا معلوما إلى أجل كذا وكذا، ولا أسمي حائط بني فلان، قلت: نعم، فبايعني صلى الله عليه وآله وسلم، فأطلقت همياني، فأعطيته ثمانين مثقالا من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، قال: فأعطاها الرجل وقال: اعجل عليهم وأغثهم بها، قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة، فلما صلى على الجنازة دنا من جدار فجلس إليه، فأخذت بمجامع قميصه، ونظرت إليه بوجه غليظ، ثم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب بمطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، قال: ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره وقال: أي عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أسمع، وتفعل به ما أرى؟ فوالذي بعثه بالحق، لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي هذا عنقك، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: إنا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعا من غيره مكان ما رعته، قال زيد: فذهب بي عمر فقضاني حقي، وزادني عشرين صاعا من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أزيدك مكان ما رعتك، فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا، فمن أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحبر؟ قلت: نعم، الحبر، قال: فما دعاك أن تقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قلت، وتفعل به ما فعلت؟ فقلت: يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد اختبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا، وأشهدك أن شطر مالي فإني أكثرها مالا صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشاهد كثيرة، ثم توفي في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر) ([5])

ولا أزال أذكر أولئك العتاة الغلاظ من قومك الذين حاربوك لأكثر من عشرين سنة، لكنك بمجرد أن تمكنت منهم، قلت لهم: (ماذا تظنّون أنّي فاعل بكم؟) ،: فقالوا (خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم)، فقلت لهم: (لا تثريب عليكم يغفر الله لكم.. اذهبوا فأنتم الطّلقاء)([6])

وحكى ابن مسعود حالك، فقال: (كأنّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكي نبيّا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدّم عن وجهه ويقول: (ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون)([7])

بعد أن عرفت كل هذا وغيره مما يعجز اللسان عن وصفه، عرفت عظم الكيد الذي كادك به المحرفون المدلسون الذين راحوا يتهمونك بأنك قلت: (اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه، وليس لذلك أهلا، فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة)[8]

ولم يكن قصدهم من هذا الحديث الذي كذبوه عليك إلا تبرئة أولئك الطلقاء من أصحاب الملك العضوض الذين حذرت منهم، ونبهت الأمة إلى خطرهم.. وبدل أن يأخذوا أحاديثك عنهم مأخذ الجد، ويعملوا بها، راحوا يتهمونك بأنك لم تقلها إلا في حالة غضب.. وأنك في تلك الحال لم تكن واعيا لما تقول.

ولو أن أولئك الذين قبلوا هذا الحديث، واتهموك بأنك تسب وتلعن من لا يستحق السباب واللعنة، عرفوك، وعرفوا صفحك الجميل، وخلقك الرفيع، وأنك أكبر من أن تصيبك نزوات الغضب التي تصيب من استحوذت عليهم نفوسهم وشياطينهم.. لعلموا أنه يستحيل عليك أن تقول ذلك.

وكيف تقوله، وأنت نفسك قد حدثتهم.. وهم رووا عنك قولك لبعض أصحابك عندما قال لك: (يا رسول الله، أكتب ما أسمع منك؟)، فقلت له: (نعم)، فقال: (في الرضا والسخط؟)، فقلت: (نعم، فإنه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلا حقا) ([9])

بل إنهم لو عرضوا ذلك الحديث على القرآن الكريم، وسمعوا منه قوله تعالى في حقك: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 2 – 4] لعلموا أنك أرفع من أن يصيبك ذلك الضعف الذي يصيب غيرك، فيتكلم في حال غضبه بما لا يرضي الله.


([1])  البخاري- الفتح 10 (6128) ومسلم (284)

([2])  مسلم (1764)

([3])  البخاري- الفتح 6 (2910) ومسلم (843)

([4])  البخاري- الفتح 10 (6024) ومسلم (2163)

([5])  رواه الطبرانى (5/222 رقم 5147) قال الهيثمى (8/240) : رجاله ثقات. والحاكم (3/700، رقم 6547) وقال: صحيح الإسناد.

([6])  رواه ابن سعد 2/ 141- 142.

([7])  البخاري- الفتح 6 (3477) ، مسلم (1792)

([8])  مسلم (4/ 2008، رقم 2601)، وأحمد (2/ 493، رقم 10408)

([9])  رواه الحاكم 1/105، وابن عبد البر في جامع بيان العلم، ص 89.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *