السراج المنير

السراج المنير

يا رسول الله..

يا من وصفك ربك، فقال: { وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46]

أنت ـ سيدي ـ سراج منير بكل المقاييس، وما وصفك ربك به حقيقة لا مجال فيها للشك، ولا للمبالغة، بل هي تصوير إلهي بديع لحقيقتك، وحقيقة الوظائف العظيمة التي وُكلت لك.. والتي يرتبط بها ذلك العالم الجميل المغيب الذي لا نراه.. لكننا بواسطتك يمكننا أن نراه ونعيشه ونتواصل معه، ونصبح جزءا منه.

فكما أن حكمة الله تعالى ولطفه بعباده ورحمته بهم اقتضت أن يجعل لهذه الأرض شمسا تمدها بالنور.. ولولاها لعاشت الأجساد في الظلمات المدلهمة، لا ترى ربيعا، ولا تسمع تغاريد العصافير، ولا تقطف ثمار الأشجار، ولا تتذوق طعما لأي شيء، كما وصف الله تعالى ذلك، فقال: { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)} [النبأ: 13 – 16]

فالجنات الملتفة، والنبانات المتنوعة، والثمار اللذيذة، والألوان الباهية، والنسيم العليل، والدفء الذي تستشعره الأجسام، وتنتشي له.. كل ذلك فيض من كرم تلك الشمس التي أودعها الله لتكون سراجا لعالم الأجساد.. ولذلك لا يمكن أن تقوم الحياة من دونها.

وهكذا أنت ـ يا رسول الله ـ في عالم الأرواح.. فلولاك لم نر إلا الأشباح المخيفة، والشياطين المرعبة.. ولولاك لعشنا في سجون التشاؤم المطبق، والحزن الشديد، والكآبة التي لا علاج لها.

ولولاك لم نر أشجار الحقائق الممتلئة بكل ثمار الجمال.. ولولاك لم نتمكن من قطف أي ثمرة منها.. وكيف نقطفها، ونحن لا نهتدي إليها، ولا نراها، ولا نسمع بها.. وهل يمكن لأحد أن يهتدي لشيء، وهو يعيش في ذلك العالم المظلم الذي وصفه الله تعالى، فقال: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [النور: 40]

ولذلك كنت أنت النور الذي أمدنا الله به، لنرى ربيع الحقائق، ونشم أريج عطرها الفواح الذي لم نكن لنهتدي إليه لولا ذلك الضياء الذي جعلك الله مصدرا له، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور: 40]

أنت سيدي منبع الأنوار الحقيقية التي لم تختلط بنيران الشياطين.. فلذلك من لجأ إليك، واحتمى بنورك، واستمد منه، واكتفى به، لم يضل عن السراط المستقيم.

وعندما يأتي في ذلك الموقف الذي تنكشف فيه الحقائق، ويرتفع التمويه يجد نفسه ممتلئا بأنوارك، فلذلك لا يرى الظلمات، ولا ترعبه الأشباح، ولا يقع في تلك الحفر الكثيرة، بل سيكون صاحب نور عظيم، وبصيرة قوية..

وكيف لا يكون كذلك، وهو لم يكن يخلط نورك بالظلمات، ولا بالنيران.. بل كان مكتفيا بك، يعيش في عالمك الممتلئ بالجمال.

أما أولئك الكذبة المخادعون، والذين لم يكتفوا بسراجك، أو رأوا أن سراجك أدنى من أن يضيء لهم الظلمات، فراحوا إلى غيرك، وخلطوا الحق بالباطل، وأكلوا الثمار المسمومة التي نهوا عن أكلها..

في ذلك الموقف الشديد.. تختلط عليهم الأمور.. ويذهب كل ذلك النور الكاذب الذي لم يكن يستمد من سراج الله الذي نصبه لعالم الأرواح، بل كان يستمد من نيران الشياطين التي كانت تخدع البشر..

 لقد ذكر الله تعالى ذلك الموقف الشديد، وحذرنا منه أبلغ تحذير، فقال: { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)} [الحديد: 13، 14]

هؤلاء ـ سيدي ـ الذين أعرضوا عنك، وعن وصاياك، وراحوا يتصورون أنهم يمكنهم أن يحولوا من أهوائهم سرجا بديلة لسراجك، فخدعتهم أحوج ما كانوا إليها.

لقد كذبوا على أنفسهم في الدنيا، فلذلك كذبت عليهم أنفسهم هناك..

هناك ـ سيدي ـ يمتلئ بالحزن والأسى والألم كل من أعرضوا عن سراجك المنير، وراحوا لتلك السرج المزيفة يستضيئون بها، فأكلوا من ثمارها سموما، وربوا في حقول نفوسهم حيات وعقارب.. سرعان ما كشرت لهم عن أنيابها عندما أزيل ستار التمويه، ورأى الخلق الحقائق.

لقد ذكر الله تعالى ذلك، وحذر منه أبلغ تحذير، فقال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166، 167]

هؤلاء ـ سيدي ـ هم أولئك الذين أعرضوا عن نورك، وعن سراجك المنير، وراحوا يقيمون أندادا وأصناما وطواغيت ركنوا لها، وهجروك، وتصوروا أنها تعسفهم عندما يحتاجون إليها، فتخلت عنهم، وهم أحوج ما يكونون إليها.

سيدي رسول الله.. أنا العبد الفقير الحقير الذي تشرف بأن يكون فردا من أمتك..

أسألك أن تنقذني من كل تلك السرج الكاذبة.. فلا تطيق نفسي أن تحترق بلهيبها.

ضمني إلى نورك، واجعلني أعيش في ربيعك، وفي الحقول الجميلة التي نضجت من أنوار سراجك..

اجعلني زهرة من أزهارها.. وثمرة من ثمارها.. ونورا من أنوارها.

واجعلني أتجول في تلك الجنات الفسيحة التي تنعمت بأن تكون سراجها المنير، فحياتي التي يملؤها البرد القارس لا يمكن أن تجد لذة الدفء من دونك.

وحياتي التي تلمؤها الظلمات لا يمكن أن تبصر الجمال، وتتنعم بالتواصل معه من دون أن تكون أنت نورها وضياءها وعينها.

فاجعلني أفنى عن نفسي بك.. لأبصر العالم بعينيك.. وأعيش الحقائق بروحك..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *