الرحمة المهداة

الرحمة المهداة
يا رسول الله..
يا من وصفك ربك، فقال: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128]
لقد رحت أبحث عن أكبر وصف أو لقب يعبر عنك، فلم أجد مثل هذه الآية الكريمة التي تصفك، وتصف المصدر الذي صدرت منه، والمظهر الذي ظهرت به.
فأنت ـ يا سيدي يا رسول الله ـ رحمة إلهية مهداة إلى خلقه، ليخرجهم من عالم الظلمات الممتلئة بالآلام والكآبة والحزن إلى عالم الأنوار الممتلئ بكل ألوان السعادة والسرور والفرح.
أنت مثل ذلك الطبيب الذي وجد شيخا كبيرا مقعدا مرميا على الأرض، يلتف به البعوض والذباب، وتنهشه الحيات والعقارب.. وتفترسه كل ألوان الآلام.. ظاهرا وباطنا.. فراح يضع يد كرمه وشفائه عليه، فحوله من الشيخوخة إلى الشباب، ومن المرض إلى الصحة، ومن القعود إلى النشاط.. ثم أبعد عنه كل ما يؤذيه ظاهرا وباطنا.. وملأه بكل ما يسعده، ويملؤه فرحا وأملا.. فتحول من حال إلى حال.
وهذا فعلك بنا، وبكل البشرية يا سيدي يا رسول الله..
فلولاك لعاش البشر جميعا في شيخوخة الآلام، مقعدين متألمين حزانى.. تحيط بهم الشياطين، وتسقيهم من كل ألوان السموم..
ولولاك لم نعرف حقيقتنا، ولا مصيرنا.. ولا سر الكون الذي نعيش فيه، ولا سر الحياة التي نعيشها..
ولولاك لعشنا بما تمليه علينا أهواؤنا، لا بما تمليه علينا حقائق الوجود.
أنت ـ سيدي ـ هدية الله لعباده، وحبله الذي أرسله لإنقاذهم.
وأنت ـ سيدي ـ ذلك الداعي الذي سار في الأرض يبشر بما أعد الله لعباده من فضله إن هم أطاعوه.
وأنت ـ سيدي ـ ذلك الحريص الذي كان يمتلئ ألما لإعراض المعرضين، لا لأجله، وإنما لأجلهم.. فقد كنت تراهم يتهافتون في النار تهافت الفراش، وأنت تذبهم عنها، لكنهم يأبون إلا الوقوع فيها.
لقد عبرت عن ذلك بلسانك البليغ، فقلت: (مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار فتغلبوني تقحمون فيها)([1])
وشبهت حالك وحال قومك، فقلت: (إن مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان فالنجاء فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني، واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني، وكذب ما جئت به من الحق)([2])
كان في إمكانك ـ سيدي ـ أن تكتفي بتبليغ الرسالة، وأداء ما كلفت به كما تعود الناس أن يبلغوا الرسائل، ويؤدوا ما كلفوا بك.. لكنك ـ ولكونك رحمة مهداة ـ لم تكن كذلك..
فقد كان الحزن الشديد يعتريك عند كل إعراض عنك، وعن الهدي العظيم الذي جئت به، لأنك تعلم جيدا المصير الذي يصير إليه من أعرض عنك..
لقد ذكر الله تعالى ذلك عنك، ونهاك عنه، فقال: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [فاطر: 8]، وقال: ﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 68]
بل إنه شبه حالك بحال الذي يهلك نفسه من الأسف، فقال: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ([3]) أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3] وقال: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6]
بل إنه ذكر أن حرصك الشديد عليهم، بلغ إلى درجة وددت فيها لو يجابون لكل آية يطلبونها، فقال:{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [الأنعام: 35]([4])
وغيرها من الآيات الكريمة التي تصور حالك، وأنت تدعوهم بكل ما أوتيت من قوة، ليعرضوا عن أهوائهم، ويتبعوا الحق الذي جئت به، لتتحقق لهم النجاة والفوز العظيم في الدنيا والآخرة.
وقد كنت ـ سيدي ـ تتحمل في سبيل ذلك كل ألوان الغلظة والجفاء التي يبدونها لك.. وكنت تسمع كل ألفاظ البذاءة والشتائم.. لكنك لم تكن تبالي بنفسك.. بل كان حرصك عليهم، وخوفك على المصير الذي ينتظرهم يدعوك لتحمل كل شيء منهم.
لقد وصف الله تلك الرحمة العظيمة التي كانت تكسوك ظاهرا وباطنا، وأنت تتعامل مع جميع أصناف الناس، بل مع أغلظهم طباعا، فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]
ولذلك كنت نعم الصاحب لهم.. تفرح لفرحهم، وتحزن لحزنهم، وتشاركهم في كل شيء.. وتعيش معهم كأحدهم.. بل كنت ـ سيدي ـ خادما لهم، تسعى في مصالحهم، وتقضي حوائجهم، بكل لين ولطف وتواضع.
هكذا كنت ـ سيدي ـ مثالا للقيم النبيلة، والأخلاق العالية التي جئت لتتممها.
فاعذرنا سيدي.. فقد أصبح الذين يدعون أنهم يهتدون بسنتك، ويحيون حياتك، من أكثر الناس قسوة، وأغلظهم طباعا..
لقد حولوا الرحمة التي جئت بها إلى سكين حادة يذبحون بها الناس.
وحولوا ذلك اللين والصفاء واللطف الذي كنت عليه صراخا وصياحا ونهيقا.. دونه نهيق الحمير.
وحولوا كل البشارات التي جئت بها، لتملأ القلوب أملا في رحمة الله وعيدا وإنذارات.. لا بالحقائق، وإنما بالزيف الذي حرفوا إليه دينك، والذي عجنوه بأحقادهم وأهوائهم.
نعتذر إليك ـ يا سيدي يا رسول الله ـ من هؤلاء الذين حذرتنا منهم، وأعلمتنا بأنهم سيشوهونك، ويشوهون الهدي العظيم الذي جئت بهم، فقلت: (سيخرج قوم في آخر الزمان، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرؤون القرآن، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)([5])
لكن قومي لم يبالوا بتحذيرك.. بل راحوا يسمونهم أهل سنة، وأهل حديث، وأنهم السنة تمشي.. وأنه لولاهم لضاع هديك..
ولو أنهم فتحوا أعينهم على غلظتهم وقسوتهم وجفائهم وألسنتهم البذيئة وقلوبهم المملوءة بالأحقاد، لعرفوا أنه يستحيل أن تجتمع سنتك مع القسوة..
وعرفوا أن معرفتك وحبك يملآن القلوب بالرأفة والرحمة.. وأنه يستحيل أن يحل في قلب مليء بالأحقاد معرفتك وحبك..
فمعرفتك وحبك ـ سيدي ـ لا تتنزل إلا على
القلوب الطاهرة الممتلئة بكل المعاني السامية.. أما من عداها، فادعاؤها للحب
والمعرفة، كادعاء المجرمين والمختلسين واللصوص للشرف والنبل والكرم.
([1])صحيح مسلم 4/1789 ح(2284).
([2])صحيح مسلم 4/1788 ح(2283).
([3]) قال الزمخشري [الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 298)]: (البخع: أن يبلغ بالذبح البخاع بالباء، وهو عرق مستبطن الفقار، وذلك أقصى حدّ الذبح، ولعل للإشفاق، يعنى: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لئلا يؤمنوا، أو لامتناع إيمانهم، أو خيفة أن لا يؤمنوا)
([4])قال الزمخشري في تفسيرها [الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 19)]: (والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم. وقيل: كانوا يقترحون الآيات فكان يورّ أن يجابوا إليها لتمادى حرصه على إيمانهم. فقيل له: إن استطعت ذلك فافعل، دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا من الآيات لعلهم يؤمنون)
([5]) رواه البخاري (3611) ومسلم (1066) وأبو داود (4767) والنسائي (7/ 119)..