عرفان

عرفان
رأيتك ـ بني ـ وأنت تمسك كتابا ذكرت لي أنه من كتب العرفان.. وقد ملأني ذلك سرورا، كما ملأني مخافة.. وأنا أحب أن أذكر لك في هذه الوصية ما سرني من فعلك، وما خشيت عليك منه..
أما ما سرني، فهو اهتمامك بمعرفة الله تعالى، وبحثك عنها، فليس في الوجود ما هو أغلى وأعز منها، وليس في الوجود كذلك زهد أعظم من الزهد فيها..
ولذلك كان الاهتمام بها علامة اكتمال العقل، وترقي الروح.. وقد روي أن موسى عليه السلام قال: (يا رب! أي العباد أكثر حسنة، وأرفع عندك درجة؟)، فقال الله له: (أعلمهم بي)
و روي أن اللّه تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: (يا داود! تعلم العلم النافع)، فقال: يا إلهي! وما العلم النافع؟ قال: (أن تعرف جلالي، وعظمتي، وكبريائي، وكمال قدرتي على كل شيء، فإن هذا الذي يقربك إليّ، وإني لا أعذر بالجهالة من لقيني)
ولذلك أمرنا الله تعالى بأن نبحث عنه، ونتعرف عليه في كل شيء، حتى لا نجهله في شيء، فقال: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [محمد: 19]، وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]
أما ما خشيت عليك منه؛ فهو أن تتوهم أنك بقراءة كتب العرفان تصل إلى معرفة الله، وهيهات.. فالكتب قد تدلك على الطريق، أو قد تقطع عنك بعض العقبات، أو قد تفيدك ببعض التجارب، أو قد تحل لك بعض الإشكالات، ولكنها لن توصلك وحدها إلى الطريق..
فطريق معرفة الله يحتاج منك إلى مجاهدات كثيرة، فقد ربط الله بين الهداية إليه وبين المجاهدة، فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت: 69]
والمجاهدة تستدعي منك مراعاة قلبك، حتى لا يمتلئ بالأغيار، فالله غيور لا يرضى بالشريك.. وتستدعي الصفاء، فالله كريم، ولا يحل الكريم في البيت المملوء بالدنس.. وتستدعي الهمة العالية، فهي السلم الوحيد الذي ترتقي به إلى الله، وقد وصف الله بها الصادقين من عباده، فقال: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الأنعام: 52]
وتستدعي بعد ذلك كله وقبله الذكر الكثير.. فالغافل لن يصل إلى شيء.. ولهذا وصف الله عباده الصالحين بكثرة ذكرهم لله، فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35]
وتستدعي الترفع عن الأكوان، لأن حضرة الله حضرة مقدسة، ولا يصح أن ندخل إليها بنعال الأكون.. وقد سئل بعض الحكماء: كم بين الحق والعبد؟، فقال: (أربعة أقدام: يرفع قدما من الدنيا، وقدما من الخلق، وقدما من النفس، وقدما من الآخرة؛ فإذا هو عند اللّه)
ولهذا قد لا تحتاج يا بني للكثير مما تذكره تلك الكتب، ذلك أن العمدة على الإرادة والهمة العالية والصفاء، وقد سأل بعض المريدين شيخه أن يعطيه الاسم الأعظم الذي يختصر به الطريق إلى معرفة الله، فقال له: (ليس لاسم اللّه حد محدود، ولكنه فراغ قلبك لوحدانيته، وترك الالتفات إلى غيره؛ فإذا كنت كذلك، فخذ أي اسم شئت، تسير به من المشرق إلى المغرب، في ساعة ثم تجيء)
وإياك يا بني من أن تقع فيما يقع فيما نص عليه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52]
ذلك أن الشيطان لن يترك الحق مجردا عن الباطل، بل هو يسعى لخلطه به، حتى يكون ذلك فتنة.. ولذلك فإنه كما أن في تلك الكتب عسل كثير، فإن فيها أيضا من السموم ما قد يقتلك.. فاجتهد في أن تستفيد من عسلها، وإياك وسمها.
ولن تتحصن من سمها حتى تتحصن بكتاب ربك، وهدي نبيك وورثته الذين أوصى بهم، فهم الحكم الذي يرد إليه كل شيء، وقد قال بعض المشايخ: (إن النكتة لتقع في قلبي من جهة الكشف فلا أقبلها إلا بشاهدى عدل من الكتاب والسنة)
وقال آخر: (كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة.. طِرْ إِلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة، ادخل عليه ويدك في يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)([1])
وقال آخر: (إِذا عارض كشفُك الصحيح الكتابَ والسنة فاعمل بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إِن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإِلهام)([2])
ولهذا اشتد الصالحون على أصحاب الطامات والدعاوى الذين لا يعطون للربوبية حقها من التعظيم، فاحذر هؤلاء، فهم مستدرجون، وليسوا عارفين، فأول علامات العارف أن يتحقق بما وصف الله تعالى به عباده حين قال: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) } [الفرقان: 63 – 67]
وقال في وصف المخبتين: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [الحج: 34، 35]
وقال في وصف المفلحين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 1 – 11]
فاجعل هذه الآيات نصب عينيك..
فمعرفة الله أعظم من أن تحل في القلوب المدنسة بالأهواء والكبر والتعالي والغرور،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) ([3])
([1]) الفتح الرباني والفيض الرحماني، ص29.
([2]) انظر: إِيقاظ الهمم، (2/302)
([3])رواه البخاري (6101)، ومسلم (2356)