شهوات

شهوات
سألتني ـ بني ـ عن الشهوات، وذكرت لي أنها المصيدة التي أوقع بها الشيطان سهمه من بني آدم، فغواهم وأرداهم وأهلكهم، وأنساهم إنسانيتهم، كما أنساهم ربهم، فتحولوا مثل تلك الشاة التي يجرها الجزار إلى المذبح بحفنة شعير، أو حزمة حشيش.
ثم طلبت مني أن أعطيك الترياق الذي تقضي به عليها، حتى لا يطمع فيك الشيطان وجنوده الذين حولهم إلى صفه، فأصبحوا سدنة لمعبده، وعبيدا لسلطانه.
وكما أوافقك يا بني في حديثك الأول، فإني لا أوافقك في الثاني، ذلك أن محال الشهوات التي استغلها الشيطان ليست سوى تلك اللطائف الجميلة التي زود الله بها روح الإنسان، ليرتقي بها في سلم الكمال.
ولذلك كان القضاء عليها قضاء على حقيقة الإنسان نفسه، ونحن لم نطالب بقتل حقائقنا، وإنما طولبنا بالرقي بها..
نحن لم نُطالب بوقف أجهزة هضمنا عن عملها، لكونها سببا في شهوة المطعم، ولكنا طولبنا بأن نعرف نوع الطعام الذي نأكله، ومواقيت ذلك وآدابه ومقاديره ليتناسب مع إنسانيتنا وكرامتنا وحقيقتنا.. حتى لا تصبح تلك الأجهزة حبالا نخنق بها أنفسنا، ونقضي بها على وجودنا.
وهذا ما يفعله الشيطان الذي يضع أغلاله في أعناق بني آدم عندما لا يحسنون التعامل مع الشهوات، أو عندما يوجهونها خلاف الوجهة التي تقتضيها طبيعتهم.
فالله تعالى وضع فينا الحرص، وجبلنا عليه، لنستعمله في الحفاظ على أنفسنا، وعدم الزج بها في المهالك، ولنستعمله في حفظ من كلفنا بحفظه، وتوفير كل ما يحتاجه له..
ولذلك كان الحرص وسيلة من وسائل الصلاح وأداء التكاليف، فلا يمكن أن يجاهد نفسه من لم يكن حريصا عليها وعلى مصالحها..
ولكن الحرص نفسه قد يتحول إلى غل يقتل روح الإنسان، مثلما يتحول الطعام إلى سم يقضي عليه.. وذلك إذا خرج عن غايته، وتحول من حرص إلى شره وبخل وأنانية.. حينها لا يكتفي الحريص بتحقيق مصالحه، وإنما يذهب إلى مصالح غيره، ليضمها إلى مصالحه.
ولذلك فإن المشكلة ليست فيما وهبنا الله من طاقات، وإنما في ذلك الاستخدام السيء لها، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك في بعض مواعظه، فقال: (إنما أخشى عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من بركات الأرض)، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أويأتي الخير بالشر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإنه كلما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر، كلما أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها، استقبلت الشمس، فثلطت، ثم رتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة، ونعم صاحب المسلم لمن أخذه بحقه، فجعله في سبيل الله، واليتامى والمساكين وابن السبيل، ومن لم يأخذه بحقه، فهو كالآكل الذي لا يشبع، ويكون عليه شهيدا يوم القيامة)([1])
وهكذا ـ يا بني ـ كل الشهوات، فمن عرف كيف يتعامل معها ارتقى بها إلى المراتب العليا في الكمال، ومن قصر في ذلك نزلت به إلى الدركات.
ألا ترى أن الحب شيء واحد، ولذته واحدة.. لكن من الناس من يوجهه إلى صور المخلوقين يفنى فيها، ويستغرق في عبوديته لها.. ويتعذب بذلك كل أصناف العذاب، كما قال بعضهم يصف ذلك:
ألا ما الهوى
والحب بالشيء هكذا |
يذل به طوع
اللسان فيوصف |
ولكنه شيء قضى
الله أنه |
هو الموت أو شيء
من الموت أعنف |
فأوله سقم وآخره
ضنى |
وأوسطه شوق يشف
ويتلف |
وروع وتسهيد وهم
وحسرة |
ووجد على وجد
يزيد ويضعف |
لكن من الناس من يترفع عن أن يصير مغلولا في سجون الصور، بل يرتقي ببصيرته إلى المصور، ليرى من عوالم الكمال والجمال ما لا يخطر على بال المسجونين في سجون الشهوات الدينة.
وحين يرتقي إلى ذلك يكتشف لذة الحب الحقيقي، ويشرب من كأسه، فتجتمع لديه اللذة من أصفى منابعها، ويتجنب كل ذلك الهم والحسرة التي يعاني منها المستغرقون في الشهوات التي تفرضها عليهم أبصارهم، وتحجبهم بها عن بصائرهم.
والغافلون عندما يرون أولئك المترفعين بشهواتهم، يحزنون عليهم، ويتصورون أنهم يتألمون لذلك، وهم لا يعلمون أنه لا يمكن مقارنة ما هم فيه من لذة وسعادة، بأي لذة أخرى.
وقد قال شاعرهم مقارنا بين تلك اللذات المحدودة القصيرة التي كان يجدها في سجن الأنا، وتلك اللذات الجديدة التي صار يعيشها عندما رحل إلى عالم الحقائق:
كانت لقلبي أهواء مفرقةٌ… فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي
فصار يحسدني من كنت أحسده…وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي
تركت للناس دنياهم ودينهم…شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي
وقال آخر معبرا عن ذلك، وعن معاناته مع الشهوات المنغصة، وتنعمه بالشهوات الحقيقية الصافية التي لم تكدرها أيادي الشياطين:
كان يسبى القلب فى كل ليله ثمانون…بل تسعون نفساً وأَرجح
يهيم بهذا ثم يأْلف غيره… ويسلوهم من فوره حين يصبح
وقد كان قلبى ضائعاً قبل حبكم… فكان بحب الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبى هواك أَجابه… فلست أَراه عن خبائك يبرح
حرمت الأَمانى منك إِن كنت كاذباً… وإِن كنت فى الدنيا بغيرك أَفرح
وإِن كان شيء فى الوجود سواكم… يقرَّ به القلب الجريح ويفرح
ولهذا كانت معرفة الله والتواصل معه، من أعظم اللذات التي لا يمكن مقارنتها بتلك اللعب التي يشتغل بها الأطفال:
من عرف الله فلم تغنه… معرفة الله فذاك الشقي
ما يصنع العبد بعز الغنى… والعز كل العز للمتقي
ولذلك قال ذلك الصالح: (نحن والله الملوك الأغنياء، نحن الذين قد تعجلنا الراحة في الدنيا، لا نبالي على أي حال أصبحنا وأمسينا إذا أطعنا الله عز وجل)
وقال آخر: (ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله)
وقال بعضهم لبعض الملوك، عندما طلب منه أن يسأله بعض حاجات الدنيا: (أو تقول لي هذا ولي عبدان هما سيداك)، فقال الملك متعجبا: (ومن هما؟)، قال: (الحرص والهوى، فقد غلبتهما وغلباك، وملكتهما وملكاك)
وطلب بعض المريدين من شيخه أن يوصيه، فقال: (كن ملكا في الدنيا تكن ملكا في الآخرة)، فقال المريد: (وكيف أفعل ذلك؟) فقال: (ازهد في الدنيا تكن ملكا في الآخرة)
هذه وصيتي بني إليك، لتعلم كيف تتعامل مع لطائفك، وترتقي بها إلى تلك العوالم الجميلة التي هيئت لها.. فنحن لم ننزل إلى هذه الأرض، لننغمس في مستنقعاتها، ونذوب في طينها، لنتحول حجارة من حجارتها، وإنما نزلنا إليها لنشم عطر نسيمها، ونهتدي بها إلى عوالم الجمال، بعد أن نتحول إلى أزهار عطرة، فلا يسكن الجنان غير الزهور.. أما الحجارة، فقد أخبر الله تعالى عن محلها، فقال: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة: 24]
والبشر الذين أدمنوا على الشهوات الدنية،
واختلطت بدمائهم وعروقهم، ليسوا أقل قسوة من الحجارة، ذلك أن تلك الشهوات هي
الغشاوة التي غشت على بصيرتهم، فلم يروا الحقائق، ولم يشموا عطورها الجميلة..
ولذلك بدل أن يسيروا إلى جنة اللذات الحقيقية، ساروا إلى جهنم اللذات المزيفة.
([1]) صحيح البخاري 4/26 ح(2842).