شبهات

شبهات

سألتني ـ بني ـ فيما مضى من الأيام والسنين عن الكثير من الشبهات، وقد أجبتك عنها بما أطاق عقلي أن يجيب، ولست أدري هل كانت إجابتي كافية لعقلك أم لم تكن؛ فمن الصعب لعقلي أن يدرك بدقة ما في عقلك، ولا محل الشبهة فيه، ولا المفاتيح التي تحلها.

لذلك أذكر لك شيئا قد ينفعك في إزالة تلك الشبهات من أساسها، ولن تعود حينها بحاجة لي ولا لغيري.. فالله الذي أتاح لتلك الشبهات أن تجد محلا لها في عقلك، أتاح لك كذلك الكثير من الأدوية التي تزيل مادتها، وتطهر عقلك وقلبك منها ومن آثارها، ومن غير مصدر خارجي.

وأول تلك الأدوية أن تعلم مصدر الشبهات.. فإذا عرفته عرفت الأدوية التي تقاومه، فنحن لا يمكننا أن نعرف كيفية مقاومة الداء في أجسادنا ما لم نعرف نوع الجراثيم التي تغزوه، والفيروسات التي تحول بينه وبين التمتع بالصحة.

وقد أخبرنا ربنا بأن المصدر الأكبر للغواية والضلال والشقاء هو إبليس، ذلك الذي يبحث في قلوبنا عن محل ليرسل من خلاله الوساوس والشبهات التي قد نتصور أنها وليدة عقلنا الباحث، بينما هي في الحقيقة ليست سوى إملاءات شيطانية كتبها في قلوبنا.

لقد قال تعالى يصف تهديد الشيطان بتحقيق ذلك: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40]

فهاتان الآيتان الكريمتان تصفان بدقة كل المنابع التي تصدر منها الشبهات، سواء كانت شبهات علمية أو فلسفية أو نفسية أو اجتماعية.. أو لمعت بأي بريق، أو ضمخت بأي عطر.. فهي جميعا وساوس شيطانية، استطاع الشيطان بحيله ودهائه وخبرته بالإنسان أن يحولها إلى أمور مستساغة يمكن لمن لم يستعمل عقله بالطريقة الصحيحة أن تمر عليه، وتؤثر فيه.

والآيتان الكريمتان تبينان أن المنهج الذي اعتمده الشيطان لترسيخ تلك الشبهات هو منهج التزيين والإغواء، وهو لا يعني أن الشيء المزين يحمل أي حقيقة جمالية، ولكنه يعني أن ذلك المزين وضع بصورة بحيث تُقبل عليه العين، أو يقبل عليه الذوق، ثم يقع الإنسان فريسة له بعد ذلك، مثلما يقع المدمن فريسة لذلك الشراب، أو تلك المخدرات التي استعملها مرات عديدة إلى أن صارت متحكمة فيه.

ولذلك أخبر الله تعالى أن من تزيينات الشيطان للمشركين قتل أولادهم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [الأنعام: 137]

فمع أن هذه الظاهرة لا تتناسب أبدا مع ما جبل عليه الإنسان من قيم الرحمة والحنان، وخصوصا على الأولاد إلا أن الشيطان عبر أدواته المختلفة، استطاع أن يجعل من ذلك التصرف سلوكا عاديا طبيعيا، أقره المجتمع، وراح يجد من يدافع عنه.

ولا نستغرب هذا، فهناك من راحوا يضعون النظريات العلمية التي تساند التمييز العنصري، أو تحض على العنف والإرهاب وكل أنواع الجرائم.. وكل ذلك بشبهات ينشرونها، سرعان ما تجد العقول التي تصدقها، وتعتقد بما فيها.

وأنت تعرف يا بني ما فعل النازيون والمستعمرون والمجرمون على مدار التاريخ.. فهم لم يتحركوا وفق العقل الإنساني السليم الذي جبلنا الله عليه، وإنما تحركوا وفق تلك التعديلات التي أجراها الشيطان بفعل الوساوس التي يوسوس بها، والتزيينات التي يزخرف بها الباطل ليحوله إلى حق.

ولذلك لا تنظر يا بني لتلك التزيينات التي زينت بها الشبهات، ولا الزخارف التي طليت بها، فهي ليست سوى زخارف أملتها الشياطين على أوليائها.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وقال: { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]

لذلك أدعوك يا بني بدل أن تجري وراء الشبهات للرد عليها، أن تعيد عقلك إلى وعيه وإنسانيته وفطرته السليمة، لأن بعض من استحوذ الشيطان على عقولهم، صاروا منغلقين تماما، يرون الحجج أمامهم رأي العين، لكنهم لا يبصرونها، لأن الشيطان سد منافذ بصائرهم، وأخرجهم من إنسانيتهم، واستحوذ عليهم.

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19]، ثم ذكر أن هؤلاء لم يعد فيهم شيء من الإنسانية، وإنما تحولوا تحولا تاما إلا شياطين، فقال: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المجادلة: 19]

ثم ذكر صفاتهم الكبرى التي يعرفون من خلالها، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ } [المجادلة: 20]

فالصفة الكبرى لهؤلاء الذين خرجوا من إنسانيتهم، وتحولوا إلى حزب الشيطان، هو محادة الله ورسوله.. والاعتراض على الله ورسوله.. وسوء الأدب مع الله ورسوله.. وتوهم أن عقولهم أعلم بالحقائق من الله ورسوله..

وهم في الحقيقة يرددون نفس مقولة الشيطان: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]، ولكنهم لا يقولونها لآدم عليه السلام، وإنما يقولونها لله ورسوله.

لذلك أنصحك يا بني أن تعيد مداركك إليك، وأن تخلصها من استحواذ الشيطان عليها، لأنك يمكن أن ترى الحقائق من غير بصر، ولا أن تسمعها من غير أذن، وأول ما يفعله الشيطان هو الاستيلاء على هذه المدارك، حتى يصبح الإنسان أضل من الأنعام، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]

هذه يا بني حقيقة كل تلك الشبهات التي كنت توردها علي كل حين.. لذلك أوصيك بأن تترك الانشغال بها، وانشغل بما يبعد الشيطان عنك، ويجعله يهرب بجنوده من احتلاله لمراكز الإدراك فيك.

وقد ذكر القرآن الكريم طريقة ذلك، وهي ذكر الله، لأن الشيطان لا يستحوذ على الإنسان إلا بعد نسيانه لذكر الله، كما قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } [المجادلة: 19]

ولذلك فإن الناسي لله، ليس ناسيا له فقط، وإنما ناسيا لنفسه أيضا، ذلك أنه لا قيام له إلا بالله، ولا حفظ له إلا به، فإذا ابتعد عنه صار غرضا لكل السهام.. وأولها سهام شياطين الإنس والجن، كما قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]

ولذلك كان الطريق الصحيح للهرب من الشيطان هو الهرب إلى الله.. { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]

فلا يمكنك مدافعة الشيطان بنفسك، ولا بعقلك، ولا بحزبك، ولا بأي جهة.. فالشيطان قد توعد أن يأتيك من كل الجهات، حتى تلك الجهات التي تتصور أنها معك ضده، قال تعالى: { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17]

لذلك كان الحل الأجدى لك هو الرجوع إلى الله والفرار إليه، والتوكل عليه، فقد أخبر الله تعالى أنه {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } [النحل: 99، 100]

وقد كتب بعض المريدين لشيخه يذكر له بعض تلك الوساوس التي كنت تشكو لي منها كل حين، فكتب له شيخه يقول: (لا تشتغل بها.. واشتغل باللّه يردها عنك)

ثم قال له: (لقد غلط في هذا الأمر خلق كثير، واشتغلوا بمن آذاهم، فطال الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى اللّه لكفاهم أمرهم ولردهم عنهم)

وقال آخر لمريده: (الشيطان كلب، إن اشتغلت بمقاومته مزق الإهاب وقطع الثياب، وإن رجعت إلى ربك صرفه عنك برفق)

وقال آخر: (إن كان هو يرانا من حيث لا نراه، فاللّه يراه من حيث لا يرى اللّه، فاستعن باللّه عليه)

وقال آخر: (ومن عرف اللّه ذاب الشيطان من نوره فلم يبق يعرف إلا اللّه)

وقال آخر: (نحن قوم لا نعرف الشيطان)، فقيل له: أو ليس قد ذكره اللّه في كتابه؟ قال: (أجل، ولكن اشتغلنا باللّه فكفانا أمره حتى نسيناه)

وقال آخر: (عداوة العدو حقّا هي اشتغالك بمحبة الحبيب حقّا، فإذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب ونال عدوك مراده منك)

وهكذا افعل يا بني.. فكلما خطر عليك خاطر سوء، أو وردت عليك شبهة.. اجلس بين يدي الله، واسأله أن يصرفها عنك، وأن يردك إليه ردا جميلا، وأن يصرف عنك الذي يريد أن يحجبك عن الله، وعن حقيقته.. وسترى حينها كيف تزال الشبهة، لا بدليل عقلي، ولا بنص نقلي، وإنما بنور يقذفه الله في قلبك ترى به الحقيقة رأي العين.. ولا يمكن لمن يرى شيئا أن يطلب الدليل عليه.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *