دجل

دجل

سألتني بني عن الدجال الذي حذر منه كل الأنبياء.. وعن زمانه، وعن الخوارق التي يأتي بها، والبشر الذين يضلهم.

وأنا لا أدعوك لتكف عن سؤالك عنه، ولا لترك الحذر منه، فمعاذ الله أن أتجرأ؛ فأعقب على ما ذكروه، أو أهون منه، أو أحقر من شأنك.

ولكني أنبئك بأن أولئك الأنبياء الذين حذروك من الدجال، الذي قد يدركك زمانه، وقد لا يدركك، حذروك أيضا من دجالين كثيرين لا يخلو منهم عصر من العصور([1])..

ولذلك كان الأهم من السؤال عن الدجال وزمانه والخوارق التي يأتي بها، السؤال عن المسالك التي يسلك بها أولئك الدجالون الكثيرون إلى قلبك ودينك، ليبعدوك عن ربك، وعن حقيقتك.

فاسمع ـ بني ـ لتحذيراتي.. فأنا لم أقلها من عند نفسي، وإنما سمعتها من كلمات الأنبياء والصديقين.. وقرأتها في كلمات ربي المقدسة التي امتلأت بالتحذير منهم، ومن فتنهم.

اسمع يا بني.. إن أول الدجالين، وأخطرهم ذلك الذي يشوه الله في عقلك وقلبك، ويملؤك بالخيالات الفاسدة، فتتوهم الله جرما من الأجرام، أو وثنا من الأوثان.. فتقع في الشرك.. فالله لا تحده الحدود، ولا يحل في مكان، ولا يشبه خلقه بأي وجه من الوجوه.

وقد روي أن بعض الصديقين ذكر له بعض ما يقوله الدجالون الذين يتبعون المتشابه، وينشرون الوثنية في أمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]،لا يحد ولا يحس ولا يجس ولا تدركه الأبصار ولا الحواس ولا يحيط به شئ ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد)([2])

وقال: (إن الله تعالى لا يشبهه شيء، أي فحشٍ أو خنى أعظمُ من قولٍ من يصف خالق الأشياء بجسم أو صورة أو بخلقة أو بتحديد وأعضاء، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً)([3])

ولذلك احذر بني من هؤلاء.. واعتصم بكتاب الله، فقد تجلى الله تعالى لخلقه في كتابه ليعرفوه.. ولا تبحث عن معرفة الذات، فإنك لن تقدر قدرها.. واكتف بما ذكره ربك من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، ففيها الغنى والكفاية.

ولا تبحث ـ بني ـ عن تلك الأسرار التي لا يطيقها عقلك، فأنت لم تنزل في هذه الدنيا، لتبحث عن أسرار ربك، وإنما نزلت إليها لتطهر نفسك، وتملأها بالأخلاق الرفيعة.. فإذا ما تطهرت، وارتقت، صارت قابلة لتنزل الحقائق من غير جهد منك، فمعرفة الله هبة إلهية، لا تحل إلا في القلوب الطاهرة الممتلئة بالصدق والإخلاص.

واحذر ـ بني ـ بعد هذا من أولئك الدجالين الذين يدعونك لترك العمل، ويملأونك بالأمان الكاذب، فالله تعالى نهانا أن نتعدى حدوده، أو نقصر في تنفيذ عهودنا معه، وتوعدنا بالعذاب إن فعلنا ذلك، وما كان لنا أن نتعدى ما ذكره ربنا، أو نتجاوزه، أو نهون منه.. لقد قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]

وأخبر أن الدجالين من هذه الأمة الذين يملأونك بالغرور الكاذب، لا يختلفون عن أولئك الدجالين من أهل الأديان الأخرى، والذين كذبوا على أقوامهم، {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } [البقرة: 80]، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 80]، ثم أخبر عن قانون الجزاء والعقوبة الذي شرعه الله لخلقه جميعا، فقال: { بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81، 82]

ولذلك إذا صحبت شخصا، فحولك من الطاعة إلى المعصية، أو من الذكر إلى الغفلة، أو من العمل إلى الكسل، فاعلم أنه دجال.. فالعارف بربه من أكثر الناس خشية لله، وعبودية له، وقد قال تعالى في وصفهم: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر: 23]

فهؤلاء الذين ترتعش قلوبهم، وهم يقرؤون كتاب الله، هم الذين يفهمون مقاصد كلام ربهم، لأنه لا يفهمها ذلك الدجال المتاجر بها، وإنما يفهمها من امتلأ بالإيمان بالله وتعظيمه ومحبته وخشيته، فلذلك لا يتحرك أي حركة إلا وكان الله دليله عليها.

واحذر ـ بني ـ بعد هذا من أولئك الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب، ويتركون محكمه.. أولئك الذين تركوا الحقائق الجلية، وراحوا يجادلون في الألفاظ والمعاني، وملأوا دينهم بالفتنة والزيغ، أولئك الذين حجبوا عن كلام ربهم، لأنهم ملأوه بالجدل والخصومة، لقد قال تعالى في وصفهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]

وهكذا يا بني احذر من أولئك الدجالين الذين يملأون قلبك أحقادا على المسلمين أو غيرهم، فمعاذ الله أن يجتمع الحقد مع الإيمان في محل واحد.. فالإيمان طمأنية وسلام ومحبة.. ومن دعاك إلى الحقد دعاك إلى الكفر والضلالة.

واحذر ـ بني ـ من أولئك {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم: 32].. أولئك الطائفيين الذين تركوا الدعوة إلى الله ورسوله والقيم النبيلة، وراحوا يدعونك إلى أنفسهم، وشيوخهم..

وأول علاماتهم دعوتك للصراع مع المسلمين، وتكفيرهم، وقتلهم، وملأ القلوب حقدا عليهم.. فكل من دعاك إلى ذلك شيطان.

ولذلك كان من أول علامات الصديقين دعوتك إلى الوحدة بين المسلمين، والسلام بين العالمين.. فالله تعالى لم يخلقنا مختلفين ليصارع بعضنا بعضا، وإنما خلقنا كذلك ليعرف بعضنا بعضا، ويستفيد بعضنا من بعض.

وهكذا، احذر ـ بني ـ من أولئك الدجالين الذين يملأونك بالخرافة والدجل والشعوذة.. فدين الله دين علم، ومن اعتقد بأن العلم يخالف الدين فإنه جاهل بكليهما.. فالعلم يعرفك بخلق الله، وسننه في كونه.. والدين يعرفك بشريعة الله، وسننه في الحياة.. وكلاهما يخدم الآخر.. بل كلاهما دين.. وكلاهما علم.

وهكذا، احذر ـ بني ـ من أولئك الدجالين الذين يتسابقون إلى وسائل الإعلام، وينشرون صورهم في كل محل، فهؤلاء لا يدعونك إلى الله، وإنما يدعونك إلى أنفسهم، فأول علامات العالم فناؤه عن نفسه بالحق الذي يحمله.. ولذلك يمتلئ خجلا إن ذكر في المجالس.. لأنه لم يدع إلى ذكر اسمه، وإنما دعا إلى ذكر اسم الله.

هذه ـ بني ـ بعض صفات الدجالين.. فاحفظها.. واحذر من أن يتسللوا إليك، وإلى قلبك وعقلك.. فدينك رأسمالك، وبه نجاتك وسعادتك، فلا تسلمه إلا لمن تثق في صدقه وإخلاصه وتقواه.

فإن فعلت ذلك أمنت من شر كل الدجالين.. ليس الذين يعاصرونك فقط.. وإنما من جميعهم حتى من ذلك الذي لا يزال يختبئ في عوالم الغيب، ينتظر من رسله الصغار أن يمهدوا له العقول والقلوب، لينشر فتنته الكبرى في الأرض.


([1]) من الأمثلة على ذلك ما ورد في الحديث من قوله a: (لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان فيكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة ولا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله) (رواه البخاري 3609، ومسلم 157، وأبو داود 4333، والترمذي 2218، وأحمد 7187)

([2])   الكافي  1/104.

([3])   الكافي1/105.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *