تجديد

تجديد

يا بني.. ربما تلومني لأني لم أحدثك من سنين طويلة، بل من آماد ممتدة، وعهود عراها البلى..

لا تلمني يا بني، فأنا لم أكن أتكلم كل تلك الفترة، لأني كنت متفرغا للسماع.. ولا يمكن لأحد أن يجمع بين الكلام والسماع.

نعم يا بني.. فقد كنت أستمع للحياة، وهي تغني أغانيها المطربة أو المحزنة.. وكنت أستمع للأحياء وهم يرقصون على نغماتها.. وقد تلقيت من تلك الرؤية وذلك السماع حكما كثيرة.. فلا يمكن للحكيم أن يتلقى الحكمة إلا بعد أن يدمن الصمت، ويدمن معه الإصغاء، ويدمن معهما الرؤية والاعتبار..

ومع ذلك، فلا يمكن للحكيم أن يظل صامتا، فأعظم الظلم أن نحبس الحكمة بين زوايا أفواهنا وصدورنا.. إننا بذلك نقيدها كما نقيد العصفور الذي خلقه الله حرا طليقا.. بل نقيدها كما نقيد قطرات الغيث، لنحول بينها وبين أن تروي الأرض، وتروي معها ظمأ الإنسان، وجوع الحياة.

بعد كل ذلك الزمن الذي نضجت فيه الحكمة في كياني، وتغلغلت معانيها في وجداني أُذن لي أن أحدثك، كما أذن لي أن أحدثك من قبل..

وسأحدثك عن أشياء كثيرة.. منها بعض ما ذكرته لك من قبل.. ولكني أحتاج الآن إلى صياغة جديدة له.. فلكل زمن أسلوبه في الوعظ، ولكل زمن موسيقاه التي يطرب لها السامعون..

وبما أنك الآن ستنزل إلى زمن غير الذي كنت فيه، وستعيش مع ناس غير الذين كنت تعيش معهم.. فإني أحتاج أن أؤهلك لهذه الحياة الجديدة.. فلا يمكن أن تعيش السلام مع الحياة الجديدة، ومع الأحياء الجدد ما لم تحفظ مواعظي وتعيها كما وعيتها أول مرة.

لن أحدثك عن القديم المعاد صياغته فقط.. وإنما سأحدثك معه عن جديد كثير.. جديد يتجدد كل يوم.. فأصخ سمعك لي كل يوم.

فنحن الآن في عصر يختلف كثيرا عن العصر الذي حدثتك فيه أول مرة..

نحن الآن في عصر يملك شيئا اسمه (التلفزيون).. وآخر اسمه (الإنترنت).. وآخر اسمه (الصحافة).. وآخر اسمه (المذياع).. وغيرها كثير.

وكل هذه الأشياء لم تكن موجودة حين وعظتك أول مرة.. ولهذا لم أذكرها لك.. ولو كانت موجودة لذكرتها.. فهي أخطر من أن تخلو موعظتي عنها.

أمام هذه الأشياء الجديدة الغريبة وبين يديها يجثو آلاف آلاف آلاف البشر، بل يركعون جميعا كما يركعون أمام رع وعشتار وأمون واللات والعزى.. وهم يتلقون منها فكرهم وسلوكهم وحياتهم.. وهم يسلمونها في أحيان كثيرة نفوسهم لتتصرف في توجيهها كما تشاء..

ولهذا فإن الكثير منهم نسي مواعظي القديمة.. واستبدلني بدجالين كثيرين.. ولولا ذلك الصياح المتواصل من الحياة الجميلة، ومن أولئك الأحياء الذين لا زالوا يحتفظون بقيم الحياة الجميلة ما كنت حدثتك.. فأصخ سمعك لي.. فإني سأحدثك كما حدثتك أول مرة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *