الموت

الموت
رأيتك ـ يا بني ـ حزينا على موت ذلك الصديق الذي كان يملأ حياتك بالسعادة.. وأنا لا أريد أن أمسح ذلك الحزن الجميل الذي كسا وجهك، فملأه بالبراءة والصدق والوفاء، ولكني أريد أن أذكر لك الحقائق التي ترتبط بالموت.. والتي نتألم ونحزن عندما لا نستعملها أحوج ما نكون إليها.
فليس الموت يا بني ذلك الشبح الذي صورته لنا الأوهام، أو تلك العقول التي لم تتطهر في مطهرة الوحي المقدس.. وإنما هو شيء آخر أجمل بكثير.
إنه موعد لقاء الله.. وهل هناك قلب أو عقل أو روح لا تشتاق لأجمل لقاء لها في حياتها جميعا.. فبالموت تزاح كل تلك العلائق والعوائق والحجب التي كانت تفصل الروح عن بارئها، وتملؤها بالكدورات والمنغصات.
ولهذا تحدى الله تعالى أولئك الذين زعموا كاذبين أنهم أولياء الله ومحبوه، حيث قال لهم وعنهم: { قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6، 7]
وهكذا تحداهم عندما ادعوا أن لهم الدار الآخرة خالصة من دون الناس، فقال: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 94]
ثم ذكر كذبهم في ادعائهم، فقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95]
ثم ذكر السبب في ذلك، وهو الحرص على الحياة الدنيا، فقال: { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96]
والآيات الكريمة تشير إلى نوعين من الحياة.. الحياة الدنيا التي نعيشها بهذه الأجساد الممتلئة بالآفات والمنغصات والكدورات.. والحياة التي يحياها الموتى الصادقون، والممتلئة بالسعادة والقوة والفرح.
ولو أنك يا بني رأيت ذلك الصديق الذي حزنت على وفاته، بعد أن خلع عنه جلباب جسده، لفرحت له فرحا عظيما.. ولعلمت أن الله تعالى ما اختار له الموت إلا ليريحه، ويبدله جسدا خيرا من جسده، وحياة خيرا من حياته.. والله لا يريد لنا إلا الخير.
إن مثل ذلك يا بني مثل رجل يملك مطية متهالكة فانية لا تكاد تقطع به الطريق.. ثم أُبدل بأخرى أقوى وأسرع.. فهل يحزن على مطيته القديمة، أم يغمره السرور لمطيته الجديد؟
وهكذا أجسادنا ـ يا بني ـ فإنها ليست سوى مطايا لأرواحنا تستعملها في هذه الحياة الدنيا.. لتؤدي خدمتها الإلزامية، وتكليفها الشرعي، وبعدها تمتطي من المطايا ما يفوق تلك المطية المتهالكة بكثير.
إن أجسادنا يا بني لا تختلف عن أظافرنا وشعرنا الذي نلقيه عندما نتضايق من طوله.. وهكذا عندما نتضايق من علل جسدنا يرميه الله عنا، ويبدلنا جسدا أقوى وأصح وأجمل وأكمل من أجسادنا.
ولا تحزن يا بني على الأرزاق التي كان صديقك يتناولها.. فهي موجودة هناك أيضا.. فيستحيل على الرزاق الذي رزق عالم الحياة الدنيا ألا يرزق عالم الحياة الأخرى.
والأرزاق هناك أجمل وأفضل وأكمل.. وأين هي أرزاق هذه الحياة من أرزاق تلك الحياة.. لقد وصفها الله تعالى فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 – 171]
إن هذه الآيات الكريمة تصور بعض حسنات تلك الحياة، وتشير إلى مجامع نعمها.. ويمكنك بالتدبر فيها أن ترى عوالم كثيرة تختزنها كلماتها المقدسة.
إن أهل تلك الحياة بحسب تلك الآيات الكريمة يحيون حياة حقيقية لا حياة الأشباح والخيالات التي تصورها الأوهام..
ويرزقون رزقا حقيقيا يلتذون له.. لا رزقا وهميا أو معنويا.. بل هو رزق شامل لكل متطلبات تلك الأجساد الجديدة التي أنعم الله بها عليهم، والتي أتيح لهم بها من الطاقات ما لم يتح لأجسادهم الدونية والدنيوية.
والآيات تذكر أيضا حياتهم الاجتماعية.. فهم مجتمعات مثل هذه المجتمعات.. بل هي أفضل من هذه المجتمعات، لأنها مجتمعات للمتجانسين والمتشاكلين من أصحاب الهمم الواحدة.
والآيات تذكر اتصالهم بهذه الحياة الدنيا، وأنهم وإن خرجوا منها بأجسادهم إلا أن لهم تواصلا تاما معها، يسمعون أخبارها، بل يشاهدونها مثلما نشاهد على شاشات التلفاز أخبار العالم..
بل إنهم لا يشاهدونها فقط، وإنما يتفاعلون معها، ويمكنهم أن يقدموا خدماتهم لها في حال الحاجة إلى ذلك.
لذلك يا بني على تحزن على صديقك.. فقد كنت أراه كثير الذكر لربه، كثير العمل الصالح، وكنت أستمع لحديثكما فأمتلئ سعادة وسرورا.. وأعلم أن الله الكريم لن يخيبه.. فكل أعماله الصالحة التي عملها سيجني ثمارها هناك، وسيراها رأي العين.. فالله لا يضيع عنده شيء.
ومع هذا يا بني لا أدعوك لتمني الموت، فقد نهينا عن ذلك، والأدب مع الله يجعلنا نترك الأمر له، فهو الذي حدد الآجال، وهو الأعلم بمصالحنا.
ومثل من يتمنى الموت قبل أن يكمل ما عليه مثل من يطلب الخروج من الامتحان قبل أن يكمل الإجابة على الأسئلة التي طرحت عليه.. ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، ولا يدع به قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا)([1])، وقال: (لا تمنوا الموت، فإنه يقطع العمل، ولا يرد الرجل فيستعتب)([2])
ووضح سبب ذلك في حديث آخر، أكثر تفصيلا، فقال: (ما من أحد يموت إلا ندم)، قيل: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: (إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع)([3])
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر النبي بقبر دفن صاحبه حديثا، فقال: (لركعتان خفيفتان مما تحقرون أو تنفلون يراهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم)([4])
وروي أن بعضهم خرج في جنازة، فانتهى إلى قبر، فصلى ركعتين، ثم اتكأ عليه، فسمع صوتا يقول له: (إليك، ولا تؤذني، فإنكم قوم تعملون ولا تعلمون، وإنا قوم نعلم ولا نعمل، لأن يكون لي مثل ركعتيك أحب إلي من الدنيا وما فيها)، ثم قال: (جزى الله أهل الدنيا خيرا، أقرئهم منا السلام، فإنه يدخل علينا من دعائهم نور مثل الجبال)
أعلم يا بني أنك ستعترض علي، وتذكر لي أن هذا مخالف لما ذكره الله تعالى من دعوة اليهود إلى تمني الموت.. والأمر ليس كما فهمت.
فاليهود اُختبروا لحبهم للدنيا، وحرصهم عليها، ولم يختبروا لإيمانهم وتقواهم.. ذلك أنه ليس كل من لا يتمنى الموت راغبا عن لقاء الله.. بل قد يكون من أكثر الناس رغبة في ذلك اللقاء المقدس..
ولكنه يتمنى تأجيله، لا لطلب شهوات الدنيا، وإنما لتطهير نفسه، والرقي بروحه حتى تصبح أهلا للقاء الحبيب..
وإن شئت مثالا يقرب لك ذلك، فاسمع لما قاله هذا الحكيم، فقد ضرب مثلا له بـ (المحب الذي وصله الخبر بقدوم حبيبه عليه، فأحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيء له داره، ويعد له أسبابه، فيلقاه كما يهواه فارغ القلب عن الشواغل، خفيف الظهر عن العوائق)([5])
وعلامة صدق هذا، هو حرصه على الطاعات، وإكثاره منها، حتى لا يعاجله الموت، وهو ممتلئ بالكدورات، وقد ورئي بعض الموتى في المنام فقال: (ما عندكم أكثر من الغفلة، وما عندنا أكثر من الحسرة)
لذلك اجتهد يا بني في أن تعمل من العمل الصالح ما يؤهلك للقاء صديقك، وإياك أن تفتنك الدنيا، فلا تراه بعدها أبدا.. فقد سمعته وهو يوصيك في آخر أنفاسه بطاعة الله، لأنكما لم تجتمعا إلا على ذلك، ولم تفترقا إلا عليه.
فإن كنت حقيقة حزينا عليه ومحبا للقائه، فسر في حياتك مثلما كنت تسير معه، وحافظ على عهدك معه، ولا تنسى أن ترسل له من الهدايا ما تحفظ به وفاءك وصدقك.
واعلم أن الله الشكور الكريم كما
يوصل له هديتك، يحفظ لك أجرها أيضا، بل يضيف لها أجر وفائك وصدقك وأخوتك..
فالإخوان في الله على (منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)([6])
([1]) رواه مسلم ح 2682.
([2]) رواه أحمد 3/49.
([3]) رواه الترمذي ح 2403.
([4])الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد 1/10 ح(31).
([5])إحياء علوم الدين (4/ 330)
([6]) سنن الترمذي، 4/175 ح(2390)