المرض

المرض

سألتني ـ بني ـ عن المرض وأسراره والحكمة منه.. وذكرت لي أثناء ذلك ما يتفوه به المعترضون على الله من كونه شرا وألما لا مبرر له، ولا حاجة إليه، وأن الذي قدره ـ إن كان موجودا ـ ليس له علاقة بالرحمة، ولا باللطف، ولا بأي معنى من المعاني النبيلة.

وأنا لا أريد أن أقنع هؤلاء بما يختزنه المرض والألم من الرحمة واللطف.. فأنا أعلم أن الذي يتجرأ على ربه بمثل تلك الوقاحة والبذاءة يستحيل عليه أن يفهم وصيتي، أو يقتنع بها، أو يعتقد بما فيها.

ذلك أنه لا ينطلق من عبوديته لله، وافتقاره إليه، وإنما ينطلق من شعوره بالندية له، بل من تعاليه عليه، ولذلك يطلب منه حتى يثبت وجوده أن يتخلى عن حكمته وقوانينه وسننه، ويلتفت لما يمليه عليه.

وهؤلاء هم الذين واجهوا الرسل عليهم الصلاة والسلام، وطلبوا منهم الآيات الكثيرة، وعندما رأوها بأم العين، لم يخضعوا لها، وإنما راحوا يلتمسون أعذارا جديدة ليتهربوا من التكاليف التي يمليها عليهم الإيمان..

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } [القمر: 1 – 5]

ولذلك سيكون خطابي لك.. ولأولئك الصادقين من المؤمنين الذين خضعوا لما أوصلتهم إليه عقولهم التي أحالت أن يكون هذا الكون بتصميمه البديع خاليا من مدبر حكيم ممتلئ بكل أصناف العظمة.

وأول ما دلتهم عقولهم عليه بعد ذلك، البحث عن الرسول الذي يرسله ذلك الإله الحكيم ليرشد خلقه إلى حقائق الحياة.. فيستحيل على الصانع الحكيم ألا يضع دليلا لعباده يهديهم إلى أسرار صنعته، وأغراضه منها.

وقد أوصلتهم هذه المعاني العقلية الضرورية إلى البحث عن أسرار الحياة، وسننها، والتي لا تستطيع عقولهم المجردة أن تعرفها..

وأول تلك الأسرار وأهمها سر الابتلاء.. فقد عرفوا أن هذه الحياة ليست هي الغاية ولا المقصد، وإنما هي حياة دنيا.. وهناك حياة أعلى وأكمل وأجمل منها بكثير، وقد وصف الله تعالى كليهما، فقال: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]

ولذلك عرفوا أن الثغرات الموجودة في هذه الحياة كالمرض والفقر والحاجة وكل أصناف البلاء ليست مقصودة بذاتها، وإنما المقصود منها التمحيص والتمييز والتربية.. مثلما يفعل المدربون في مخيمات التدريب مع العساكر الذين يريدون تأهيلهم للحياة العسكرية، فلا يمكن أن تستقيم تلك التدريبات مع الرخاء والرفاه.

ولذلك لم ينظر الصادقون إلى البلاء إلا كما ينظر الجنود إلى فترة التدريب، باعتبارها مرحلة ضرورية لتأهيلهم وتوفير اللياقة لهم لممارسة وظيفتهم.. ولذلك لم تكن شرا، وإنما هي وسيلة إلى الخير.. وأداة للحياة الأبدية التي لا يمكن أن يتخيل أحد مدى جمالها وكمالها.

لقد سمعوا قوله تعالى في كلماته المقدسة:: (إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى، ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالقلة، ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسقم، ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصح إيمانه إلا بالصحة، ولو أسقمته لكفر)([1])

فلذلك سلموا الأمر لله، ولم يعترضوا عليه.. وكيف يعترضون، وهم يرون بأم أعينهم كيف يبطر الأغنياء، وكيف يستبد الأصحاء، وكيف يتحول المستكبر العاتي إلى إنسان بسيط متواضع بسبب مرض ألم به، أو فقر وحاجة اعترته؟

هم يعلمون أن الحياة الدنيا حياة قصيرة، ولا قيمة لها في سجل الزمن اللا نهائي.. ولذلك لم يبالوا بكل ما ينزل فيها من البلاء.. وكيف يبالون، وقد قال الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } [الضحى: 4]، وقال: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الْأعْلى: 17]؟

وكيف يبالون، وقد أخبرهم الله تعالى أنه سيبتليهم، ولفترة محدودة، لا لعقابهم، وإنما لتمحيصهم وتربيتهم، فقد قال تعالى: ﴿ وَلَنَبلُوَنكُم بِشَيء منَ الخَوف وَالجُوعِ وَنَقصٍ منَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثمَراتِ وَبَشرِ الصابِرِينَ الذِينَ إِذَا أَصَـابَتهُم مصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلهِ وَإِنـا إِلَيهِ راجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ من ربهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ ﴾ (البقرة:155-157)؟

ولذلك لم يلتفتوا للألم، وإنما التفتوا للبشارة المرتبطة بالألم، فحولوه من ألم إلى أمل..

وكيف لا يأملون، والذي وعدهم بذلك هو الله، خالق كل شيء.. وقد وعدهم بالرحمة الشاملة التي لا تمتد إلى أجسادهم فقط، وإنما لأرواحهم أيضا.. ولا تمتد لحياتهم القصيرة فقط، وإنما للحياة الأبدية..

ولذلك غابوا عن آلامهم بآمالهم، ولم يعد ذلك الداء الذي ينهش أجسادهم بقادر على الوصول إلى أرواحهم.. بل بقي محصورا في محله الضيق من أجسادهم، والتي يعلمون أنها ستعود لا محالة إلى التراب الذي جاءت منه، لأن العبرة ليست به، وإنما بالروح التي تمتطيه..

لذلك نظروا إلى الجانب المملوء من كأس البلاء، ولم ينظروا إلى الجانب الفارغ منها، وقد قال تعالى يبين كثرة الخير المخزن في طيات ما نكره:﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ (النساء:19)

ولذلك نرى تلك التعازي الكثيرة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمرضى والمبتلين تدعوهم إلى الأمل في فضل الله الواسع.. وألا تشغلهم آلامهم عن الخير الكثير الذي ينتظرهم في هذه الدار، وتلك الدار.

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخبرا عن الإكرامات العظيمة التي أكرم الله بها الصابرين على بلائه، والراضين بقضائه: (ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها)([2])

وعندما نزل قوله تعالى:﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾ (النساء:123) تأثر الكثير من الناس، خوفا على أنفسهم من صرامة المحكمة الإلهية، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخففا: (قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها)([3])

ولهذا كان المرض ـ إذا ما صوحب بالصبر والرضا وعدم الاعتراض على الله ـ من أكبر وسائل التطهير.. تطهير النفس من الأمراض، وتطهير الصحيفة من السيئات.. ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما مثل المريض إذا برأ وصح كالبردة تقع من السماء في صفائها ولونها)([4])

وعندما دخل عبد الله بن مسعود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه وجده وهو يوعك وعكا شديدا، فقال: إنك لتوعك وعكا شديدا، إن ذاك بأن لك أجرين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أجل ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر)([5])

ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاد امرأة مريضة يقال لها أم السائب، فقال ـ يسألها عن صحتها ـ: (ما لك يا أم السائب تزفزفين؟)، فقالت: (الحمى، لا بارك الله فيها)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد) ([6])

ويروى أنه عاد امرأة أخرى يقال لها أم العلاء، فقال لها: (أبشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة)([7])

ويروى أنه عاد رجلا من وعك كان به، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أبشر، فإن الله يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المذنب لتكون حظه من النار)([8])

هذه ـ بني ـ بعض البشارات النبوية، التي تمسح الآلام عن المرضى، وتدعوهم إلى عدم الاعتراض على الله، وهي لا تعني أبدا ما يفهمه الجاحدون من أنها دعوة لعدم العلاج؛ فمعاذ الله أن يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك، وكيف ذلك، وهو نفسه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعالج من الأمراض التي تصيبه، بل كان يرشد إلى بعض العلاجات التي يهديه إليها ربه([9]).

بل كان فوق ذلك كله يدعو المؤمنين إلى استعمال كل وسائل البحث للتعرف على الأدوية، ويخبرهم أنه يستحيل أن يكون هناك داء من غير ألا يكون هناك دواء يعالجه، ففي الحديث، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تداووا، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله)([10])

وهو يشير إلى أن رحمة الله تعالى تأبى أن تنزل البلاء من دون أن تنزل معه العافية، أو تنزل المرض دون أن تنزل معه العلاج المناسب له.. ولذلك استطاع البشر ـ بإلهام الله وتوفيقه ـ أن يكتشفوا الكثير من الأدوية للأمراض التي كان الجهل يصور أنها مستحيلة الشفاء.

لذلك يا بني بشر المرضى بهذه المعاني، وأخبرهم أن الله تعالى لم يتخل عنهم بسبب مرضهم، وإنما هو معهم، وقريب منهم، ودعاؤهم مستجاب.

وأخبرهم أن الرحمن الرحيم الذي ابتلاهم بذلك، لم يرد أن يعذبهم، وإنما أراد أن يربيهم، ويمحصهم ويصلحهم.

وأخبرهم أن الله تعالى سيعوض كل آلامهم بالفرح والسعادة والسرور في هذه الدار، وفي تلك الدار..

وأخبرهم أن ذلك الخطاب الذي قال الله تعالى فيه مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم قائلا له: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 3 – 5]، يمكن أن يسمعوه أيضا إذا ما سلموا أمورهم لله، واكتفوا بفضل الله، ولم يدعوا المرض الذي أصاب أجسادهم يتسلل إلى أرواحهم ليملأها بالاعتراض والكدورة.

وأخبرهم خبر تلك المرأة الصالحة التي قطع أصبعها، فضحكت، فقيل لها: أيقطع أصبعك، وتضحكين؟.. فقالت: (أحدثكم على قدر عقولكم: حلاوة أجرها أنستني مرارة قطعها)

وأخبرهم عن ذلك الرجل الصالح الذي قال: (إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للإسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني)

فبشر أولئك المرضى أنهم إن نظروا إلى الخير المخزن في البلاء، فسينسون المعاناة التي يعانونها، لأنهم سيقبضون ثمنها عاجلا وآجلا.. وسيرون يوم القيامة مصداق ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي يقول فيه: (يؤتى بالشهيد يوم القيامة، فينصب للحساب، ويؤتى بالمتصدق، فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا، حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض، من حسن ثواب الله لهم)([11])، ويقول: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)([12])

بشر يا بني بهذه التسليات المرضى إن زرتهم أو جلست معهم، واملأهم بالأمل، فلا علاج كالأمل.. ولا تنس أن تعرض هذه التسليات الإلهية للمبتلين على أولئك المعترضين، لتنظر ما عندهم من عزاء للمتألمين..

فإنهم يا بني لا يملكون شيئا.. ولذلك لا تتألم أجسادهم فقط، بل تتألم أرواحهم أيضا.. وآلام الروح أعظم وأخطر وأدوم من آلام الجسد.


([1]) رواه ابن ابي الدنيا في الاولياء (9/ 1 ح:1) و الكلاباذي في المعاني (377/ 1) و ابو نعيم في الحلية (318/ 8 – 319).

([2])  صحيح البخاري 7/114 ح(5640).

([3])  صحيح مسلم 4/1993 ح(2574)

([4])  سنن الترمذي 3/481 ح(2086)

([5])  صحيح البخاري 7/115 ح(5647)

([6])  صحيح مسلم 4/1993 ح(2575)

([7])  سنن أبي داود 3/184 ح(3092)

([8])  سنن الترمذي 3/482 ح(2088)

([9]) ذكرنا هذا بتفصيل في كتاب [أدوية من السماء] من سلسلة [رسائل السلام]

([10])  مسند أحمد 30/398 ح(18455)

([11])  المعجم الكبير للطبراني 12/182 ح(12829)

([12])  سنن الترمذي 4/181 ح(2402)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *