الفناء

الفناء

يا بني.. لا يمكنك أن تجمع بين دعوتك للحقيقة ودعوتك لنفسك.. ولا دفاعك عن الحقيقة ودفاعك عن نفسك.. فعلامة صدقك مع الحقيقة ذوبانك فيها، وفناؤك فناء تاما في جمالها وكمالها وبهائها بحيث لا ترى غيرها، ولو كان ذلك المرئي نفسك.

ألم تعلم يا بني ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الرجل الذي ذكر له حبه له، وأنه يتجاوز كل شيء إلا نفسه؟

لقد قال له: (لا! والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك)([1])

أرأيت.. لقد دعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يتجاوز في حبه له نفسه أيضا، لأنه لا يمكن أن يجمع أحد بين ذلك الحب المقدس، وحب النفس..

فلا يمكن رؤية الجمال المحمدي ورؤية النفس في وقت واحد..

فرؤية النفس حجاب، والتعلق بها قيد، والركون لها سجن، والانشغال بها وبمطالبها همة دنية تمنع من تلك الرحلة الجميلة التي تطير بها الروح إلى عوالم الكمال المهيأة لها.

يا بني.. لا تظنن أن الفناء عن نفسك، هروب منها، أو تحقير لها، أو نزول بها إلى عوالم العدم المظلمة..

كلا.. فمعاذ الله أن يطلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من محبيه أن يفعلوا ذلك..

وإنما الفناء عن النفس ارتقاء بها.. ذلك أنه لا يمكن أن يرتقي أحد، وهو ينظر إلى مرآة نفسه، بكل نرجسية وعشق وإعجاب..

فهل رأيت في الدنيا من وصل إلى الكمال، وهو معجب بنفسه، يجثو أمام محرابها مصليا خاشعا؟

وهل رأيت أحدا ارتقى في مراتب الكمال العلمي والعملي، وهو فرح بما عنده من العلم، مزهو بأعماله، مستغرق في الإعجاب بها؟

كلا.. ومعاذ الله أن تتاح تلك المراتب الرفيعة لمن هذا حاله.. فأول ما يتجاوزه الصديقون أنفسهم، حيث يلقونها في عوالم الفناء، ليرتدوا حلة الحقيقة، ويذوبوا في جمالها.

وحين ذاك تكسر أوانيهم لتظهر معانيهم.. فالأواني حجاب عن المعاني، ولا يمكن أن تصل للمعاني، وأنت متعلق بالأواني.. وأول الأواني نفسك.

لقد قال بعض الحكماء معبرا عن الجرائم التي يرتكبها من ينظر إلى نفسه، وينشغل بها عن النظر للحقيقة والفناء فيها: (أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه فأي علم لعالمٍ يرضى عن نفسه؟ وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟)

هذا ما قاله هذا الحكيم، وهذا ما يقوله عقلك وفطرتك.. فنفسك حجابك.. ولا يمكن أن تصل إلى روحك التي هي محل سرك، وأنت مشغول بالنظر إلى نفسك.

يا بني.. لا تظنن أني أدعوك لأن تفعله ما فعله الرهبان الذين راحوا يعذبون أجسادهم، ليقمعوا أنفسهم.. فمعاذ الله أن أدعوك لتزدري نعم الله عليك، أو تخون أمانة هذا الجسد الذي أودعه الله عندك، فلا يمكن لحياتك أن تستقر أو تستمر وأنت تعذب جسدك..

ما أردت يا بني إلا شيئا واحدا، وهو ألا تنشغل بجسدك ومطالبه، ولا بنفسك ومطالبها، فمطالب نفسك لا تنتهي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)([2])

ولهذا فإن أول ما تسد به تلك المطالب الدنية هي الترفع للمراقي العالية، التي تجعلك تنظر بسخرية لأولئك الذين يقضون أعمارهم في ملء دلاء أنفسهم المثقوبة، والتي لن تملأها بحار الدنيا.

يا بني.. هل تتصور أن أولئك السحرة الذين آثروا الصلبان على عزة فرعون كانوا ينظرون إلى أنفسهم؟

كلا فلو فعلوا ذلك، لما قالوا لفرعون بتلك العزة الإيمانية: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [طه: 72، 73]

لقد قالوها بكل عزة، وفي مواجهة أكبر طاغوت، لأنهم حينها لم ينظروا إلى نفوسهم وضعفها وشهواتها وقصورها، وإنما كانوا ينظرون لمن هو خير وأبقى، فلذلك استطاعوا أن يتحولوا إلى بركان ثائر، هز أركان الطاغوت.

لذلك لم يكن النظر إلى النفس حجابا عن الحقيقة فقط، بل كان أيضا حجابا عن القيم العظيمة المرتبطة بها..

فالتضحية والإيثار هي أول المطالب التي تطالبك بها القيم.. ولا يمكن لمن يرى نفسه، ويعجب بها، ويدعو لها، ويدافع عنها، أن يقدم أي تضحية، أو أي إيثار، وكيف يفعل ذلك، وهو لا يتقدم ولا يتأخر إلا تنفيذا لمطالبها، ورضوخا لأهوائها.


([1])رواه البخاري 6/ 2445 (6257)

([2])صحيح البخاري 8/92 ح(6436)، مسلم (1808).

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *