الشيطان

الشيطان

أعلم ـ يا بني ـ أن للشيطان دوره الكبير في غواية بني آدم.. وأنه لولاه لكان شأنهم مختلفا تماما.. لكني مع ذلك لا أستطيع أن أعلق كل ما يحصل من مآس وانحرافات وضلالات عليه.. ذلك أنه البداية، لكنه ليس النهاية.. وهو المحرض، لكنه ليس الفاعل.. وهو الدافع، لكنه لا يدفع بشدة، ولا بقهر، ولا يهيمن على من يدفعهم.. بل يفعل ذلك بلطف.. والمدفوعون هم الذين يختارونه، وكان في إمكانهم ألا يفعلوا.

فلذلك لا أستطيع أن ألقي كل اللوم عليه.. ولو فعلت ذلك لحاجّني، وغلبني، وأول ما يحاجني به أولئك المخلَصين الذين استطاعوا أن يتخلصوا من أسره، وينفلتوا من كيده، مع أن لهم كل ما لإخوانهم من بني آدم من استعداد للسقوط، وقدرة على تلقي الكيد الشيطاني.

لقد ذكر الشيطان نفسه هذا، وأخبر أن من استطاع أن يسيطر على نفسه، فستكون له القدرة على السيطرة على مكامن الوسوسة، وبذلك لن يتمكن من إضلاله، ولا غوايته، قال تعالى يذكر قوله هذا: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40]

بل إن الله تعالى أقره على ذلك، وقال: { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 41، 42]

وبذلك، فإن الشيطان تابع للإنسان قبل أن يكون الإنسان تابعا له.. فلولا تلك القابلية الإنسانية، لما كانت الوسوسة الشيطانية.. ولذلك كان الإنسان بادئا، ومسؤولا، ولا يستطيع أن يفر عن مسؤوليته بسبب وساوس الشياطين.

وكيف له أن يفر عن مسؤوليته، وهو يعلم أن الله تعالى الذي مكّن الشيطان من الوسوسة له قد مكن معه من الملائكة من يعمل مقابل عمله.. فالشيطان يوسوس والملك يعظ ويوجه ويحذر.. وهو لا يكف كل حين من إبداء مواعظه.

والمشكلة أن الذي رضي وسوسة الشيطان فتح آذان قلبه له، وصمها عن سماع ملاكه.. ولو سمع لملاكه لفر شيطانه عنه.

إن الأمر يا بني يشبه شخصا يملك تلفازا يحوي قنوات كثيرة.. منها قنوات هداية، ومنها قنوات تضليل وانحراف.. وبدل أن يختار قنوات الهداية ليستمع لها، راح يختار قنوات الضلالة.

نعم.. قنوات الضلالة ملومة فيما تنشره من تضليل.. ولها دور في ذلك.. وتحاسب عليه.. لكن المسؤولية لا تقع عليها وحدها.. بل تقع على ذلك المختار الذي اختارها، وكان في إمكانه أن يختار غيرها.

أقول لك هذا يا بني حتى لا تقع فيما يقع فيها المعارضون لربهم، المستدركون عليه، الذين جعلهم سوء أدبهم، يتصورون أن الله ما خلق الشيطان إلا ليُضل الإنسان..

ومعاذ الله أن يكون الهادي الذي وفر كل أسباب الهداية ساعيا لتضليل الخلق.. ولا منتقما منهم بذلك.

وإنما خلق الله الشيطان، أو مكّن للشيطان أن يؤدي دوره حتى يمحص العباد، ويربيهم، بعد أن وهبهم كل ما يريدونه من الحرية والاختيار.. ولا يمكن لمن يطلب الحرية أن يجد طريقا واحدا.. وإلا كان مضطرا إليه.

لذلك كان الشيطان، قائد طريق الضلالة، وداعيها.. وهو لا يلزم أحدا بسلوكها، وإنما الإنسان هو الذي يختار ذلك.. وبملء إرادته ورغبته.. بعد أن يرى كلا الطريقين، ويشاهد كلا النجدين.

وأنت تعلم يا بني أن الشيطان، وإن كان شرا محضا، فالله لم يخلقه كذلك، فتقدس الله أن يخلق الشر المجرد.. ولكن الشيطان هو الذي اختار لنفسه ذلك.. وهو الذي طلب من الله ـ بعد أن علم قدرته على كل شيء، وأنه لا يرفض من سأله ـ أن يتيح له استخلاص من يشبهه من بني آدم.. حتى لا يعاقب دونهم.

واقتضى عدل الله أن يتيح له ذلك.. فما كان للشيطان وحده أن يعاقب على خطئه في نفس الوقت الذي يوجد فيه من يمكن أن يصير مثله.

لا أقول هذا يا بني دفاعا عن الشيطان.. فهو لا يحتاج إلى دفاعي.. ولكني أقوله لأقرر لك الحقيقة، ولتتحمل مسؤولية أفعالك، ولا تلقيها على أحد من الناس، حتى لو كان من شياطين الإنس والجن..

فما دمت مختارا وحرا وليس هناك من يكرهك.. فأنت مسؤول عن كل تصرفاتك.. ومحاسب عليها.. وليس لك أن تبررها بأي شيء.. ذلك أن أي تبرير تذكره سيسقط في كير الامتحان الإلهي.

لقد ذكر الله تعالى ذلك عن الشيطان، وأقره عليه، فقد أخبر أنه سيقف يوم القيامة أمام من أضلهم ليقول لهم: { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]

بل إن الله تعالى أخبر أن براءته من بني آدم لا ترتبط بذلك اليوم فقط، بل في كل الأيام.. فهو بعد أن يمارس دوره في التضليل والغواية، يفر تاركا لهم، غير متحمل مسؤولية جريرتهم، قال تعالى: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]

وذكر موقفا من مواقفه، وهو يشبه كل مواقفه، فقال: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48]

فلهذا يا بني يمكنك أن تستعيذ من الشيطان ووساوسه، لكن ذلك وحده لا يكفي.. فما دمت تستمع إليه، وتحن لحديثه، وتتلقاه بكل أريحية، ولا تنفر عنه، ولا تولي وجهك لذلك الملاك الطيب الذي يبالغ في تحذيرك.. فاعلم أنك على خطر، وأن الاستعاذة وحدها لا تكفي.

ومثل من يكتفي بالاستعاذة دون أن يصد نفسه عن الغواية، مثل الذي يشرب المسكرات، ويدمن على المحرمات، ثم يقول عند بداية شربه لها وإدمانه عليها: بسم الله.

فذكرك لله، واستعاذتك به تنبيه لك حتى تراعي جانب الألوهية، وليس مجرد لقلقة لسان، ولا طقطقة مسبحة.

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].. وذكر من يحنون لوساوس الشيطان، ويستجلبونها، ويرتاحون لها، فقال: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } [الأعراف: 202]

فلذلك اتفق جميع الحكماء على أنه لا يمكن لأحد أن يلزم السراط المستقيم من غير أن يدقق في كل عمل يعمله، أو خاطر يخطر على قلبه، وهل هو من إلهام الملاك، أو من وسوسة الشياطين.. فلا ينجو من الشيطان إلا من حاسب نفسه، وحذرها من الاستماع له أو لوساوسه..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *