الشيب

الشيب

رأيتك ـ يا بني ـ تنظر إلى الشيب الذي اشتعل برأس أبيك كاشتعال النار في الهشيم بألم وحزن.. فلا تفعل ذلك.. والأمر لا يحتاج منك إلى ذلك؛ فلا ينبغي أن نقابل نعم الله بالألم، ولا بالحزن، بل ينبغي أن نقابلها بالابتسامة المصحوبة بالحمد والشكر والاعتراف.

ولهذا بدل أن تنظر إلى ما بقي لأبيك من عمر، فتستقله وتحتقره، أن تنظر إلى ما مضى له منه، وتحمد الله على أن الله أضاف له الكثير من الأيام والسنين التي تمكنه من تدارك التقصير، وإصلاح ما أفسده، أو فرط فيه.

فالشيب ـ يا بني ـ ليس مجرما اقتحم رأسي، وإنما هو رسول كريم من رب العالمين يبشرني بقرب لقائه، ولقاء رسوله، ولقاء الأولياء والصالحين، وهل هناك من يرغب عن لقاء من يحبه؟

وهو أيضا نذير لي لأحضر نفسي لذلك اللقاء المقدس.. بتطهيرها، وتصحيح أخطائها، وتقويم سلوكها، حتى ألقى الله، وهو راض عني.

وهو فوق ذلك كله مجرد تغير طفيف في لون الشعر، ولا علاقة له بالعقل، ولا بالقلب، ولا بالروح.. فروح أبيك لا تزال في ريعان شبابها.. لم يحطم الشيب همتها، ولم يقعد بها، ولم يجتث أشجار الآمال التي لا تزال متعلقة بها..

وكيف يفعل ذلك، وهو يعلم أن الروح الصادقة المرتبطة ببارئها لا تزيدها الأيام إلا قوة وصلابة وهمة.. والقلب المملتئ بالإيمان لا تزيده الأيام إلا صفاء وطهرا ورقيا.

فلذلك لا تحزن على ما ألم بعالم الأجساد، فهو ليس سوى تراب، وسيعود للتراب طال الزمن وأو قصر.. وبعدها.. لن يبقى هناك شيء اسمه الشيب، ولا المرض، ولا الألم.. بل سيعود لأبيك بفضل الله وكرمه شبابه الدائم ظاهرا وباطنا..

فكن واثقا في فضل الله، راجيا رحمة الله، ناظرا إلى نعمه، ولا تنظر إلى الأشياء بميزان هواك، بل انظر إليها بميزان الحق، وسترى كيف يتحول الكدر إلى صفاء، والحزن إلى سعادة، والألم إلى راحة.

واسمع لهذا الشيخ من مشايخ الحكمة، والذي وقف يخاطب من اشتعل الشيب برؤوسهم، فملأهم ألما قائلا لهم ([1]): (أيها الشيوخ، ويا أيتها العجائز.. ما دام لنا خالقٌ رحيم، فلا غربة لنا.. وما دام الله سبحانه موجوداً فكل شيء موجود.. فلا تحزنوا، ولا تتألموا)

ثم قال لهم: (نعم إننا راحلون ولا مناص من ذلك.. ولن يُسمح لنا بالمكوث هنا.. ولكن عالم البرزخ، ليس هو كما يتراءى لنا بظلمات الأوهام الناشئة من الغفلة، وبما قد يصوّره أهل الضلالة، فليس هو بعالم الفراق، ولا بعالم مظلم، بل هو مجمع الأحباب، وعالم اللقاء مع الأحبة والأخلّاء، وفي طليعتهم حبيبُ رب العامين وشفيعنا عنده يوم القيامة صلى الله عليه وآله وسلم.. أجل يا إخواني الشيوخ، فما دامت الآخرةُ موجودةً، وما دامت هي باقية خالدة، وما دامت هي أجمل من الدنيا، وما دام الذي خلقنا حكيماً ورحيماً؛ فما علينا إذن إلّا عدم الشكوى من الشيخوخة، وعدم التضجر منها؛ ذلك لأن الشيخوخة المشرّبة بالإيمان والعبادة، والموصلة إلى سنّ الكمال، ما هي إلّا علامة انتهاء واجبات الحياة ووظائفها، وإشارة ارتحال إلى عالم الرحمة للخلود إلى الراحة. فلابدّ إذن من الرضا بها أشدّ الرضا)([2])

وقال لهم: (إن الإيمان قد أظهر بعلم اليقين أن المستقبل الذي يتراءى لنا بنظر الغفلة، كقبر واسع كبير ما هو إلّا مجلس ضيافة رحمانية أُعدّت في قصور السعادة الخالدة.. وإنَّ الإيمان قد حطّم صورة التابوت والنعش للزمن الحاضر التي تبدو هكذا بنظر الغفلة، وأشهدنا أن اليوم الحاضر إنما هو متجر أخروي، ودار ضيافة رائعة للرحمن.. وإنَّ الإيمان قد بصّرنا بعلم اليقين أن ما يبدو بنظر الغفلة من الثمرة الوحيدة التي هي فوق شجرة العمر على شكل نعش وجنازة. أنها ليست كذلك، وإنما هي انطلاق لأرواحنا من وكرها القديم إلى حيث آفاق النجوم للسياحة والارتياد.. وإن الإيمان قد بيّن بأسراره أن عظامنا ورميمها، ليسا عظاماً حقيرة فانية تداس تحت الأقدام، وإنما ذلك التراب باب للرحمة، وستار لسرادق الجنة..)([3])

هكذا ينبغي أن تنظر يا بني إلى هذا الشيب، وإلى كل شيء.. فالله تعالى لا يرسل لنا في كتب مقاديره إلا الرحمة والسلام.. ونحن نحزن ونتألم لأننا لا نقرأ تلك الكتب قراءة صحيحة، وإنما نقرؤها بحسب نظرتنا القاصرة المحدودة الممتلئة بالضعف والعجز.

ولذلك راح الجهلة يحجبون بالشيب والمرض والموت عن رحمة الله، بل عن وجود الله نفسه، لأنهم يريدون من الدنيا أن تكون ساحة لأهوائهم، وليس مدرجا ومدرسة للابتلاء والاختبار.

فدع عنك يا بني ذلك الحزن والألم.. فهو لا يليق بك، ولا يليق بعبوديتك.. فالمؤمن هو الذي يفرح لكل شيء يفد إليه من الله، لأنه يعلم أن الرحمن الرحيم الجواد الكريم لا يرسل إلا ما هو من مقتضيات صفاته وأسمائه.


([1]) هذه نصوص مفرقة من (رسالة الشيوخ)، لبديع الزمان النورسي، وهي من كتاب [اللمعات]، ص313، فما بعدها، وبتصرف كبير، لتتناسب مع المقال.

([2])اللمعات، ص319.

([3]) المرجع السابق، ص324.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *