الحكمة

الحكمة

الحكمة

سألتني ـ بني ـ عن الحكمة، ونعم ما سألت عنه.. فالحكمة ثمرة كل علم، ونتيجة كل بحث، وخلاصة كل فكر.. ومن لم ينل من علمه وبحثه وفكره الحكمة، لم ينل شيئا.. وكان كالذي زرع ولم يحصد، أو حصد ولم يأكل.

فإن أردت أن تحصل عليها، فاشحذ ذهنك، ونشط عقلك، واستعمل كل ما آتاك الله من لطائف.. فالحكمة لا ينالها الكسالى، ولا يتحقق بها المقعدون.. بل هي هدية الله للذين أعملوا عقولهم ولم يعطلوها، وأعملوا جوارحهم، فلم تقعد بهم عن أي خير.

والحكمة ثمرة التأمل العميق الذي لا يستسلم صاحبه لأي هوى، ولا يجري مع أي نزغة، بل يتثبت ويتأنى، إلى أن يظهر الحق.. فلكل حق علامات، ولكل باطل رايات.. ولا يمكن للحكيم أن يستسلم لأي راية، ما لم ير علائم الحق عليها.

والحكمة ثمرة التجربة والتواصل والتعارف والحوار.. فالحكيم ليس ذلك المستكبر الذي لا يقنع إلا بما عنده، بل هو الذي يستفيد من كل رأي، ويضم إلى عقله كل العقول، فلا يقع فيما وقع فيه غيره من الشباك، ولا يلدغ من نفس الجحور التي لدغوا بها.

والحكمة ثمرة الإخلاص والصدق، ذلك أنها هبة من الله، والله لا يهب فضله إلا الصادقين المخلصين الذين تخلصوا من كل أنانياتهم وأهوائهم، فصاروا رموزا للحق، ومصاديق للهدى، ومنارات للسراط المستقيم.

والحكمة ثمرة المحبة.. ذلك أنك لن تصل للحق ما لم تحبه.. فالحب هو الذي يجعلك مثل تلك الصفحة البيضاء التي تتقبل كل ما يكتبه عليها الحبيب.. والله لا يكتب في قلبك الحكمة حتى تمتلئ محبة له، وتفنى به عمن سواه.

والحكمة ثمرة الاتباع الصادق للذين جعلهم الله وسائط الهدى لعباده.. فيستحيل على الحكمة أن تتنزل على الذين أبوا السجود لآدم.. ذلك أن آدم لم يكن سوى رمز للهداية والكمال.. فمن سجد له تحقق بالكمال، ومن تكبر عليه حصل له ما حصل لإبليس.

والحكمة ثمرة الصمت والسكون.. ذلك أن المضطربين الذين ملأوا الكون صراخا لن يصلوا لشيء.. فأصواتهم تحجب عنهم الحقائق، واضطرابهم يمنع عنهم استقرارها.

هذه ـ بني ـ منابع الحكمة.. فإن شئت أن تكون حكيما، فاعمل بها، ولا تغرنك كثرة العلوم، فالعلم الذي لا ينتج حكمة، ولا يفيد تربية، ولا يثمر ترفعا وسموا، لن يفيدك شيئا.. بل هو الجهل عينه.

وقد روي في الأخبار أن بعضهم صحب بعض المشايخ مدة طويلة، وبعد أن كتب الله لهما الفراق، سأل الشيخ تلميذه: منذ متى صحبتني؟.. فقال التلميذ: منذ ثلاثة وثلاثين سنة.. فقال الشيخ: فماذا تعلمت مني في هذه الفترة؟.. فقال التلميذ: ثماني مسائل… فقال الشيخ: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل؟ ! قال التلميذ: يا أستاذ لم أتعلم غيرها ولا أحب أن أكذب.. فقال الأستاذ: هات ما عندك لأسمع.

قال التلميذ: أما الأولى، فإني نظرت إلى الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوبا فإذا ذهب إلى القبر فارقه محبوبه، فجعلت الحسنات محبوبي فإذا دخلت القبر دخلت معي.

أما الثانية، فنظرت في قول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} (النازعات)، فعلمت أن قوله سبحانه وتعالى هو الحق، فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى.

وأما الثالثة، فنظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (النحل: 96)، فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظاً.

وأما الرابعة، فنظرت إلى هذا الخلق، فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب، فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثم نظرت إلى قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13)، فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريماً.

وأما الخامسة، فنظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وأصل هذا كله الحسد، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الزخرف: 32)، فتركت الحسد، وعلمت أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى فتركت عداوة الخلق عني.

وأما السادسة، فنظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض، ويقاتل بعضهم بعضاً فرجعت إلى قول الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} (فاطر: 6)، فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدو لي، فتركت عداوة الخلق غيره.

وأما السابعة، فنظرت إلى هذا الخلق، فرأيت كل واحد منهم يطلب هذه الكسرة، فيذل فيها نفسه، ويدخل فيما لا يحل له، ثم نظرت إلى قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود: 6)، فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها، فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت ما لي عنده.

وأما الثامنة، فنظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخلوق.. هذا على ضيعته.. وهذا على صحة بدنه.. وكل مخلوق متوكل على مخلوق مثله، فرجعت إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3)، فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبي.

هذه ـ بني ـ بعض ثمار الحكمة التي قطفها هذا التلميذ النجيب من خلال صحبته لشيخه، فاحرص على أن يكون لك مثلها، أو احرص على أن تزيد عليها، فالعلم الذي لا يطهر نفسك، ولا يسمو بروحك لن يزيدك من حقيقتك إلا بعدا.

وإياك ـ بني ـ أن تتصور ني أحرضك على ترك العلم أو ترك الاستكثار منه.. معاذ الله أن أفعل ذلك.. فالحكمة ثمرة للعلم، وكلما استكثرت منه كثرت لديك ثمار الحكمة.. ولكني أحذرك من أن يكون مرادك من العلم الاستكثار المجرد، فهو لن ينفعك.. بل لا ينفعك منه إلا ما أردت به الحق والخير.. فبهما وحدهما تتحقق بحقيقتك، وبهما وحدهما ترقى إلى مراتب الكمال التي هيئت لك.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *