البصيرة

البصيرة
أعلم ـ يا بني ـ أنك صادق ومخلص، وأنك لم ترد بحركتك رياء ولا سمعة، ولا جزاء ولا شكورا.. وأعلم أنك ضحيت بالكثير من أجل تلك الحركة..
ولكن كل ذلك لا يكفي ليجعل من عملك عملا صالحا، ولا يكفي لأن يضعك في عداد الصالحين..
فأنت مهما بذلت من جهد، وقدمت من تضحيات، فلن تكون كأولئك الرهبان الذين زج بهم الخوف إلى الجبال، وراحوا هناك يجاهدون أنفسهم بكل ألوان المجاهدات، ويقمعونها بكل ألوان القمع.. لكنهم مع كل ذلك الإخلاص والصدق والتضحية.. كانوا من الضالين، لا من المهتدين.
ولم يكن ذلك بسبب نقص إخلاصهم ولا صدقهم، وإنما كان بسبب نقص بصيرتهم.
فلذلك أنت محتاج في كل حركة تقوم بها إلى البصيرة.. حتى لا تتخطفك شياطين الإنس والجن، لتزج بك في كل المهالك.
ولا تكتفي بذلك، بل تذهب إلى ما في قلبك من طهارة لتملأه بالدنس.. وتذهب إلى ما في نفسك من النقاء، لتملأه بالأحقاد.
تأمل كل من حولك، لترى كيف تتلاعب الشياطين بهم، لا بإخلاصهم وصدقهم، فالكل يزعم لنفسه الإخلاص والصدق.. ولكنها تتلاعب بتلك المنافذ التي يرون من خلالها الحقائق، حيث تحولها في أعينهم إلى الصورة التي يرغبون، لا إلى الصورة التي هي عليها.
لا تحسب أني أدعوك بهذه الوصية إلى السكون والنوم والكسل.. فمعاذ الله أن أدعوك إلى ذلك، وكيف أدعوك إليه، وقد وصف الله تعالى المنافقين بالكسل، فقال: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء: 142]، وقال: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى } [التوبة: 54]
وكيف أدعوك إلى ذلك، وقد فضل الله تعالى المتحركين على الساكنين، فقال: { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95]
وكيف أدعوك إلى ذلك، وقد عاتب الله تعالى المستضعفين الذين رضوا بضعفهم، وسكنوا إليه، فقال: { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]
وكيف أدعوك إلى ذلك، وقد وبخ الله تعالى الذين ركنوا إلى الظالمين، فقال: { وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]
وكيف أدعوك إلى ذلك، وقد رمى الله تعالى بالفسق أولئك الذين استخف حكامهم بعقولهم، فقال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [الزخرف: 54]
ولكني مع ذلك كله أقول لك: إن سكونك ونومك وكسلك قد يكون خيرا من تلك الحركة التي لم تعرضها على عقلك.. فالعاقل هو الذي يستبصر العواقب، لا الذي تحركه الأهواء.
والعاقل هو الذي لا يقرر في حال حماسته، ولا يتصرف في حال غضبه، ولا يسلم فكره لعواطفه، بل يجعل عقله هو المتحكم في كل دوائر ذاته.
وبذلك يا بني لن تقع في شباك الإنس والجن.. لأن الله تعالى يعصمك بالعقل الذي أنرته بنور الحقيقة من أن تصبح عبدا لأحد من الناس.
لا أقول لك: اعتزل الناس.. ولكني أقول لك: لا تكن عبدا لهم.. ولا إمعة تابعا تتحرك مثلما يتحرك القطيع.. تردد ما يرددون من غير أن تعرف نهاية الطريق.
أما أولئك الذين يزعمون لك أنهم يخاطبونك باسم الله.. فلا تردهم، ولكن لا تستسلم لهم قبل أن تعرف سر دعواهم، ومبتدأها وخبرها، وأولها ونهايتها، وموردها ومصدرها.. فأكثر من ترى من رجال الدين يتلقون علومهم من الشياطين.. فاحذر منهم، وسر على بصيرة.. ولا تقبل شيئا أو ترفضه، دون أن تمرره على تلك الحجج التي وضعها الله تعالى في عقلك.
يا بني.. لا أدعوك إلى السكون، ولا إلى الحركة.. ولكني أدعوك إلى البصيرة، وتقليب الأمور وفق موازين الحق حتى لا تصبح أداة من أدوات الشيطان، وأنت تعلم أنه لم يوسوس لأبيك آدم إلا بعد أن أقسم له، وغره بكل ألوان الغرور.
فإن هدتك بصيرتك إلى هذه الحركة، فسر فيها على بركة الله.. متوكلا على الله.. مخلصا لربك.. وحينها سترى بركاتها عليك.. لأنك طرت بكلا الجناحين: جناح الإخلاص، وجناح البصيرة.. ذلك أنه لا يمكن لطير في الدنيا أن يطير بجناح واحد.