المغني المستغني

المغني المستغني

إلهي .. أيها الغني المغني المستغني..

ما أجمل هذه الأسماء، وما أعظمها.. ولو أن الخلق التفتوا إليها، واكتفوا بها لاستغنوا عن كل شيء إلا عنك.. ولفرطوا في كل شيء إلا فيك..

فأنت ـ يا رب ـ الغني الذي يملك كل شيء من الملك والملكوت.. والدنيا والآخرة.. والحس والمعنى.. فلا شيء إلا وهو ملكك ابتداء وانتهاء.. وكل أغنياء الدنيا الذين فرحوا بغناهم لا يملكون قطرة من محيطات أملاكك الواسعة.. ولا جوهرة من خزائنك المملوءة بكل أصناف الجواهر.. بل إنك تملكهم وما يملكون..

وأنت ـ يا رب ـ مع غناك الواسع كريم جواد يمكنك أن تغني من التجأ إليك عن غيرك.. فإن احتاج صحة، فأنت الطبيب.. وإن احتاج رزقا، فأنت الرزاق.. وإن احتاج علما، فأنت المعلم.. وإن احتاج سعادة، فأنت المسعد.. وإن احتاج هداية فأنت الهادي.. وإن احتاج العمر الطويل، فأنت المحيي.. وإن احتاج أن ينتصف ممن ظلمه، فأنت الولي النصير..

وهكذا لا توجد حاجة من حاجات الدنيا والآخرة إلا ولديك مفاتيح خزائنها، ويكفي من يطلبها منك أن يلتجئ إليك، ويستغيث بك، ويقدم طلبه لك.. من غير أن يستأذن في ذلك، ولا أن يقف في طابور المنتظرين، ولا أن يذل نفسه لخلقك.. بل يكفي أن يرفع يديه، ويقول: يا رب.. لتقول له بفضلك وكرمك: لبيك عبدي.

وأنت ـ يا رب ـ المستغني عن خلقك .. تعطيهم من غير أن تطلب منهم.. وإن طلبت منهم لم تطلب منهم لنفسك، وإنما تطلب منهم لهم.. فأنت لا تريد لهم إلا السعادة والرضى والراحة والطمأنينة.. فلذلك إن أمرتهم أو نهيتهم كان ذلك لحرصك عليهم، وحبك لهم، ونظرك في مصالحهم.

يا رب.. يا غني .. ويا مغني .. ويا مستغني.. اغنني بك عمن سواك، حتى لا أكون فقيرا إلا لك.. فالفقر لك عزة، ومد اليد لك كرامة، والاستغاثة بك نبل، والرجوع إليك في كل حين، ولكل مطلب إنابة.

يا رب.. أنت تعلم حاجاتي من الدنيا والآخرة.. ومن شؤون الحس والمعنى.. ومما يرتبط بي، أو بمن ربطتهم بي.. فأغننا بك عمن سواك.. واجعلنا ننظر إلى ألطافك، وما ادخرته لنا في خزائن فضلك حتى لا نُحجب بخزائن المترفين، وحتى لا نقول ما قاله أولئك الجهلة عندما رأوا خزائن قارون: { يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79]

بل اجعلنا نقول ما قاله {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ } [القصص: 80]

يا رب.. اجعلنا نشعر بغنانا لارتباطنا بغناك حتى لا نحزن على ما فاتنا من الدنيا، وكيف نحزن وخزائنك هي خزائننا ما دمنا متصلين بك، متواصلين معك.. وما دمت معنا، وما دمنا معك.. فما وجد من فقدك.. وما فقد من وجدك.

ولذلك نعوذ بك أن ننظر بدونية إلى أنفسنا أو ما ملّكتنا من شؤون الدنيا.. فهي مجرد دنيا.. ونحن فيها في سفر.. والمسافر لا يحتاج لنقل كل أملاكه معه..  ونحن في امتحان .. والممتحَن لا يحتاج أن يشغل نفسه بغير ما امتحن فيه.

لذلك كان تقديرك لأرزاقنا كرما منك، وفضلا عظيما، حتى لا نُحجب برؤيته والانشغال به عنك، وعما كلفتنا به مما يرفعنا، ويسمو بأرواحنا.

يا رب.. اجعلنا نتناول ما رزقتنا من فضل غناك بكل ما آتيتنا من لطائف.. فلا نأكل الطعام بأفواهنا فقط.. وإنما نشعر به قبل ذلك بأرواحنا وعقولنا وقلوبنا، فنحمدك عليه، ونشعر بفضلك علينا بسببه، حتى لا يكون ذلك الطعام مجرد زاد لخلايا أجسادنا، بل يكون كذلك زادا للطائفنا وقلوبنا .. يقربنا منك، ولا يبعدنا.. ويدخلنا عليك، ولا يحجبنا.

يا رب.. وما آتيتنا من شؤون الدنيا.. فبارك لنا فيه.. حتى لا نتثاقل بسببه إلى أهوائنا، وحتى لا تصيبنا الغفلة التي تبعدنا عنك.. لنقع حينها في الفقر الحقيقي الذي يقطع عنا مدد فضلك، وسوابغ نعمك.

يا رب .. وأنت المغني الذي لا تقف دونه حاجة اغننا بكل ما يقتضيه فقرنا من رزق.. فارزق أجسادنا الصحة والعافية.. وارزق نفوسنا الطهارة والصفاء.. وارزق قلوبنا حبك والأنس بك والشوق إليك.. وارزق أرواحنا السمو والرفعة لترقى في معارج السير إليك، ولا تتوقف بها الطريق دونك.

وارزق ـ يا رب ـ أوقاتنا البركة.. حتى تكون كل ليالينا وأيامنا مثل ليلة القدر المباركة التي هي خير من ألف شهر.

وأحلل بكل مكان نحل به البركة، حتى نغنم بغنائم برك وفضلك.. وحتى يتحقق فينا ما ذكرته عن عبدك الصالح المسيح عندما قال في مهده: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]

يا رب.. اجعلنا نكتفي بغناك وكرمك عن سواك حتى تتحقق فينا العبودية، وحتى نفر من الشرك.. فمن رأى غيرك معك أشرك بك.. ومن رأى لغيرك تصريفا معك وقع في الضلالة، وتشتت قلبه.

يا رب.. واجعل قلوبنا وأرواحنا مع أنبيائك وأوليائك الذين أغنيتهم عن سواك.. ارزقنا محبتهم والولاء لهم ونصرتهم حتى يحل علينا ما أنزلته عليهم من برك وفضلك وبركتك، وحتى ننال على أيديهم ما لا يمكننا أن نصل إليه بأيدينا.

فاسقنا بأيديهم من برك وفضلك ما يجعلنا أغنياء بك عمن سواك، فقد قلت عن عبدك الصالح سليمان: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39]، وقلت عن خاتم رسلك وأعظمهم، ذلك الذي قربته إليك، وجعلته واسطة فضلك على عبادك: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]

يا رب .. فاسقنا بيد حبيبك محمد من شراب الآخرة ما لا نظمأ بعده أبدا.. واسقنا بيده الشريفة من شراب الدنيا ما لا نضل بعده أبدا.. وارزقنا أن نركب السفينة التي هو رُبانها .. حتى نصل إلى بر النجاة في صحبته وصحبة المصطفين من عبادك الذين ورثوا الهداية، وورثوا معها البيان والتبليغ.

فأغننا يا رب بما ورّثتهم من فضلك عن غيرهم، حتى لا نحتاج لسواهم، وحتى يكون شرابنا خالصا صافيا بعيدا عن كل كدر.

يا رب.. هذا سؤالي.. وأنت أغنى الأغنياء.. وأكرم الكرماء.. ولن يخيب من دعاك.. ولن يضل من التجأ إليك.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *