المؤمن المهيمن

المؤمن المهيمن
إلهي .. أيها المؤمن المهيمن..
يا من يؤمّن لعباده كل حاجاتهم.. ويؤمّنهم من جميع مخاوفهم.. ويهيمن على كل مقاليد أمورهم.. ويوفر لهم ما يحتاجون ابتداء وانتهاء، حتى لا يحتاجوا لغيره، ولا يضطروا لسواه.
خاب من لم يعرفك.. وخسر من لم يلجأ في كل أموره إليك.. فهو لن يجد عند غيرك إلا السراب.. ولن يرى في غيرك غير الوهم..
وكيف يكون لغيرك تصريف، ومفاتيح خزائن كل شيء بيدك؟.. وكيف يكون لغيرك معك تدبير، وأنت الحي القيوم الذي قامت به كل الأشياء.. فلا وجود لها من دون وجوده، ولا استمرار لها من دون مدده؟
يا رب.. لجأت إليك من مخاوفي فأمني.. وأبطل كل كيد يكيدني به من اختربتني بعدواتهم لي، واختبرتهم بموقفهم مني.. فحصني بحصنك، وأغثني بمددك.. فجنودك لا حدود لأعدادها، ولا لقدراتها، فأمددني بجندك، وأغثني بقوتك، حتى لا أكون ضعيفا، وأنت سندي، ولا مُهانا، وأنت عزتي، ولا مُخترقا، وأنت حصني، ولا عاجزا وأنت كهفي الذي لا ملجأ لي غيره.
يا رب.. لجأت إليك في جميع حاجاتي.. وأنت تعلمها.. ولا حاجة لي بذكر تفاصيلها.. وكيف أذكر لك ما أنت أعلم به مني.. فاقض لي حاجاتي من أمور الدنيا والآخرة.. والظاهر والباطن.. والروح والجسد.. والحس والمعنى.. والحاضر والمستقبل.. وكل شأن من شؤوني ما خفي عني وما ظهر.. وما بدا وما استتر.
يا رب.. يكفيني علمك بحالي عن توضيح ما أريده منك بسؤالي.. فكرمك أعظم من أن يحتاج إلى مقالي.. أو يرتبط بدعائي.. وفضلك أعظم من أن يتوقف على استغاثتي وتضرعي وتوسلي.. فابدأني بفضلك.. وألهمني أن أسألك حتى أتحقق بالعبودية لك.. ولو أني أعلم أن فضلك أعظم من أن يستدره سؤالي.. وكيف يكون له ذلك.. وسؤالي فضل من فضلك، ولولا إلهامك لي ما سألتك، ولولا تحريكك للساني ما دعاك.
يا رب.. أنت المهيمن الذي لا يتصرف معه غيره.. فكل الشؤون لك.. وكل الأمور بيدك.. فأعوذ بك من أن أشرك بك غيرك.. أو أعتقد أن هناك من يهيمن على الأشياء سواك.
يا رب.. إني أعلم أنك ما وضعتنا في هذه الدار التي قد يبدو فيها لغيرك بعض الملك والسلطان إلا لتميز بين من يبصر الحقائق، ومن يجهلها أو يتجاهلها.. ذلك الذي لا يعرف ملكك إلا بعد أن يسمع نداءك في الخلائق في ذلك اليوم العظيم: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]
أما الصادقون العارفون بك، فهم يسمعون نداءك هذا في كل حين.. وكيف لا يسمعونه، وكل شيء يدل عليه..
فذلك الملك أو ذلك السلطان أو ذلك الذي توهم أن مقاليد الأمور بيده.. لا يملك من نفسه شيئا.. فهو تحت رحمة قوتك وقدرتك وقهرك.. وفاقد الشيء لا يعطيه.. فهل يمكن لمن يكون سجينا لقدرة غيره أن يكون له القدرة على التسلط عليهم؟
لقد أدرك ـ يا رب ـ السحرة ذلك، عندما رأوا عصا عبدك الصالح موسى، وهي تلتهم سحرهم، وكل تلك العلوم التي فرحوا بها.. لقد أدركوا أنهم وفرعون لا يساوون شيئا أمامك.. ولذلك سجدوا لك، وسلموا لك، وتبرؤوا من فرعون، وصاحوا بكل قوة في وجهه: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [طه: 72، 73]
لقد علموا أن تلك الهيمنة التي كانت لفرعون هيمنة مجازية محدودة قاصرة.. فهو إن تمكن من أجسادهم، ليعذبها، فلن يتمكن من قلوبهم ليزحزحها عن الإيمان، ولا من عقولهم، ليفرض عليها ما يريده من شرك.
يا رب.. فاجعلني أشعر بما شعروا.. وبما يشعر به عبادك الصالحون الذين لا يخافون إلا منك، لعلمهم أن كل شيء إليك، وأنه لا تصريف لأحد معك..
اجعلني يا رب.. أرى كل التيجان والعروش هاوية أمام عرشك وملكك وسلطانك، حتى لا أستسلم لأهوائهم، أو أسكن لإرضائهم، أو أتكلم أو أتصرف بما يقربني منهم، ويبعدني عنك.
اجعلني يا رب .. أشعر بسلطانك الدائم على الأشياء.. وبهيمنتك المطلقة عليها، حتى لا أقدم بيعتي ولا ولائي إلا لك، أو للمصطفين من عبادك الذي أمرتني بالولاء لهم، ونصرتهم، والكينونة معهم.
يا رب.. أعوذ بك أن أكون كأولئك الذين خافوا سلطان الأرض، ونسوا سلطان السماء.. بل سلطان الأرض والسماء.. بل سلطان كل شيء.. فسلّطتهم عليهم، فأذاقوهم كل أنواع البلاء.. فمن رضي بغيرك بدلا عُذب.. ومن بغي عنك متحَولا تألم، وعاش حياته كلها في سجون أوهامه ومخاوفه.
يا رب .. فأمني بأمنك.. وهيمن على مخاوفي بقدرتك حتى لا يصيبني ما يؤذيني.. وكيف يصيبني وأنت سندي وموئلي.
إلهي.. واجعلني من الذين سعوا إلى التشبه بكرم سماتك وجميل أوصافك.. حتى أكون أمنا وأمانا لكل من اتصل بي.. فلا يصيبه مني إلا الخير والبركة.. والمؤمن من أمنه الناس.. والمؤمن من لم يصب غيره منه إلا السلام والخير والبركة.
واجعلني يا رب من المهيمنين على أنفسهم، حتى لا تتسلط أهوائي على عقلي.. وحتى لا يتسلط طبعي على ما أمرته مني.. بل اجعل طبعي وفطرتي منسجمة مع كرمك وعدلك ورضاك ورحمتك.. واجعل عقلي أميرا على هواي، حتى لا يقع في مستنقعات الضلالة.. واجعل روحي مهيمنة على جسدي حتى تسمو لسموات فضلك وقربك ومعرفتك.. يا أرحم الراحمين.. يا رب العالمين.