المحيي المميت

المحيي المميت
إلهي.. أيها المحيي المميت..
لقد رحت أتأمل في معنى هذين الاسمين العظيمين من أسمائك، وسر ذكرك لهما في كلماتك المقدسة، فامتلأت بكل مشاعر الهيبة والتعظيم والإجلال والمحبة لك.. وانمحت من قلبي كل مشاعر الخوف والوجل والرهبة من غيرك..
فأنت وحدك يا رب من يملك زمام الموت والحياة.. وأنت وحدك من يدبر أمرهما، ويصرفهما كيف شاء.. فلذلك لا خوف إلا منك، ولا رجاء إلا لك، ولا طمع إلا فيك.
لقد تأملت في قول عبدك الصالح إبراهيم للملك الجبار المستكبر عندما سأله عنك، يطلب تعريفا لك، فقال له: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (البقرة: 258)، وقد كانت إجابة كافية شافية.. ومن كل الوجوه.. ذلك أننا عندما ننظر إلى المستكبرين وتربص الموت بهم نعلم أنهم لا يساوون أمام جلالك شيئا.. وكيف يساوون شيئا، وهم تحت رحمة اسمك المحيي المميت الذي لا يمكنهم الفكاك منه.. فحياتهم مثل موتهم بيدك وحدك.
ولذلك لا يصح الخوف منهم، ولا الثقة فيهم، ولا التوكل عليهم.. فمن قهره الموت أضعف من أن يكون سندا لغيره.. ولذلك قلت يا رب في كلماتك المقدسة تدعونا إلى التوكل عليك وحدك، لأنك وحدك الحي الذي لا يموت: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان: 58]
ولذلك قال عبدك الصالح إبراهيم مخاطبا أولئك الذين آذوه وظلموه محدثا لهم عنك: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} (الشعراء:81)
ولذلك قال أولئك الصادقون الذين خرجوا من عبودية فرعون إلى عبوديتك: {اقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [طه: 72]، لعلمهم أن الموت لن يقضي عليهم.. وكيف يقضي عليهم، وأنت المحيي الذي يحيي الموتى؟
يا رب .. لقد تأملت في مسيرة الخلق وبحثهم عن الحياة الدائمة.. فوجدت أن أكثر بحوثهم فيها، وأكثر اهتمامهم لها.. فبسببها أو بسبب فترة قصيرة من الحياة يضيفونها لأنفسهم بنوا المستشفيات والصيدليات وأسسوا المصانع والمدارس والجامعات.. لكنهم نسوا مع ذلك كله أن يرجعوا إليك، ليعرفوا أنك واهب الحياة.. وأن كل ما وفروه لأنفسهم لن يحول بينهم وبين الموت الذي كتبته عليهم.
أنا لا ألومهم يا رب على ما قدموه من بحوث، أو أسسوه من مدارس ومصانع، فذلك حسنة من حسناتهم، وأنت الذي خلقت الداء، وخلقت معه الدواء، وأمرتنا بالبحث عنه.. لكني أتعجب من الغافلين الذين يتوهمون أن حياتهم مرتبطة بالدواء.. وليست مرتبطة بك.. ومرتبطة بالطبيب.. وليس برب الأطباء وملهمهم ومعلمهم.
والعجب الأكبر منهم يا رب في توهمهم أن الحياة مرتبطة بهذا القالب الطيني الذي رُكب لهم ليركبوه فترة من الزمن، ثم يغادروه إلى غيره من المراكب.. وكأن الذي خلق الحياة، ووفرها في كل الأرجاء يعجز أن يركب قالبا آخر للحياة أكثر قوة وجمالا وصحة.
يا رب .. فاجعلني أستمد من اسمك المحيي لأعيش الحياة الحقيقية بكل معانيها.. لا حياة قالبي الطيني فقط.. بل حياة روحي وعقلي وقلبي وكل اللطائف التي أودعتها في كياني.. فأنت صاحب كل أنواع الحياة، وفي خزائنك أجمل صورها ومظاهرها.. ولا تعطيها إلا لمن طلبها منك، أو كانت له قابلية الظفر بها.
لقد قلت في كلماتك المقدسة تدعونا إلى ذلك: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]
يا رب .. إن هذه الكلمات تشير إلى ذلك الموت العظيم الذي يقبع فيه من يتوهم أنه حي.. بينما لا ينبس بالحياة منه إلا جسده وخلاياه وأنسجته.. أما روحه وعقله وقلبه وكل لطائفه الجميلة، فمدفونة في طينه وحمئه المسنون الذي استغنى بالنظر إليه عن كل شيء.
لذلك يا رب كان كل أولئك الذين يزعمون لأنفسهم الحياة بعيدا عنك ليسوا سوى قبور متحركة.. لأنه لم يظفر بالحياة منهم إلا تلك الخلايا والأنسجة التي لا تختلف عن تراب الأرض وطينها.
وكيف يمكن أن يظفروا بالحياة الحقيقية، وهم بعيدون عنك، وعن الروح التي نفختها فيهم؟
وكيف يمكن أن يظفروا بالحياة الحقيقية، وهم بعيدون عن الاتصال بك، والتواصل معك.. وأنت روح الروح، وعقل العقل، وسر السر.. ومن كان بعيدا عنك كان مجرد وهم وخيال وسراب.
إلهي .. فارزقني الحياة الحقيقية في الدنيا والآخرة.. تلك الحياة التي تمتد للطائفي جميعا.. فترى الأشياء كما خلقتها لا كما تبرزها الأوهام.. لأراها بعين لطفك، وأسمع حديثها بسمع كرمك.
يا رب.. وأسألك أن تميت فيَ كل ما يبعدني عنك.. أمت من نفسي أهواءها الأمارة بالسوء.. وأمت من عقلي كل الحجب التي تحول بينه وبين معرفة الحق والتسليم له.. وأمت من روحي كل ما ينزل بها إلى عالم السفل، ويحول بينها وبين الترقي إليك، ولقائك.
يا رب.. لقد جعلت الحياة من أعظم نعمك علينا.. فلولاها لم نسمع ولم نبصر ولم نعلم ولم نعرف.. ولولاها لجهلناك.. ولولاها لما قدرنا على الاتصال بك والتواصل معها.. فاحفظها لنا يا رب بكرمك.. وارزقنا من الحياة أكملها وأشرفها وألطفها وأجملها حتى نعيش بصحبتك وبصحبة جمالك المطلق، وكمالك المقدس.
ونعوذ بك يا رب أن نختصر الحياة في جوانبها الحسية، تلك التي لا تساوي شيئا أمام حياة الروح التي وفرتها لأوليائك والصادقين من عبادك.. فعاشوا الحياة الحقيقية الخالدة التي تبهت أمامها كل أنواع الحياة، وكل أصناف الأحياء.
يا رب.. وإن نقلتنا من هذه الدار بالموت الذي قدرته لنا.. فارزقنا بعدها تلك الحياة التي وصفتها في قولك: { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 – 171]
ارزقنا يا رب موتة الشهداء، لنتشرف بأن نقدم أرواحنا فداء لجمالك.. ولنظفر بعدها بتلك الجوائز السنية التي تتيح لنا أن نعيش الحياة الحقيقية في رياض كرمك الذي لا حدود له.