البارئ المصور

البارئ المصور

إلهي.. أيها البارئ المصور..

يا من خلق  كل شيء وبرأه بمنتهى الدقة والإحكام.. ثم صوره كما يشاء، بحكمته ولطفه وإبداعه.

لقد رحت أتأمل في صور كل الكائنات، وأرى التفاوت بينها.. فامتلأت بالتعظيم لك، ولحكمتك، فأنت يا رب لا تعطي صور الأشياء إلا بناء على مقتضيات علمك ولطفك بخلقك، لتختبرهم وتربيهم وترقيهم وتسلك بهم سبل أهل السعادة التي ارتضيتها لهم.

لقد رأيت من الخلق من راح يشكو لك صورته الدميمة، ويود لو أنك أبدلتها له بصورة حسنة،  ويذكر لك قدرتك على ذلك.. ولو أنك يا رب استجبت له، لوقع سجينا لصورته، ولما مد يده إليك يستغيثك، ويتوسل إليك..

ولو أنه يا رب .. راح يحسب سنوات الدنيا .. ويقارنها بعمر الأبد.. ويعلم أن صورته الحقيقة مخبأة في ذلك الزمن الممتد.. لاكتفى بفضلك الممتد عن ذلك الزمان القصير المحدود الذي اختبرته فيه بالدمامة ليرجع إليك، ويكون تمحيصا له ولخلقك.

ولو أنه يا رب .. نظر إلى روحه وما أودعت فيها من الجمال، لاستغنى بجمال روحه عن دمامة جسده.. وبجمال حقيقته عن دمامة رسمه.. فما ينفع الإنسان أن تكون حقيقته دميمة، وقالبه الطيني جميلا.

يا رب .. فاجعلني أنظر إلى جمال الحقائق.. حتى لا أحجب بصور القوالب التي وضعتها فيها لتكون اختبارا لخلقك.

يا رب.. لقد كان عبدك الصالح بلال أسود شديد السواد.. وكان المشركون يسخرون من سواده.. لكن قلبه الممتلئ بتوحيدك كان أعذب من الزهور، وأرق من النسيم، وأحلى من كل ألوان الحلاوة، وأجمل من كل ملوك الجمال..

وقد ذهب المشاركون الذين رموه في الصحراء، ووضعوا على صدره الصخرة.. وذهب معهم إلى دارك الأبدية.. وهم الآن لا يحلمون برؤية جماله الذي تبدى بعد أن كان مستورا، وظهر بعد أن كان خفيا..

أما جمالهم الذي كانوا يزدهون به، ويفخرون، فقد طغت عليه دمامة أرواحهم، وقذارة نفوسهم؛ فتحول إلى مستنقع آسن مملوء بكل ألوان الكدورة.

يا رب .. فاجعل الجمال الذي يهفوا إليه قلبي جمال بلال.. ذلك الجمال الذي لا نزال نراه في دينه وأخلاقه وسموه وروحانيته وتضحيته.. وهو الذي تجلى بعد ذلك في صورته الجميلة التي دخل بها عالم البرزخ، وسيدخل بها ما بعده من العوالم.

لقد ذكرت ذلك يا رب في كلماتك المقدسة، فقلت تعزي أولئك الذين رماهم الخلق بالدمامة، وضحكوا على صورهم، وسخروا منها، ولم يعلموا أنها اختبار لهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} [عبس: 38 – 40]

وقلت في كلماتك المقدسة: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)} [الغاشية: 1، 2]، وفي مقابلها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)} [الغاشية: 8 – 10]

وقلت تعزيهم، وتملأ قلوبهم بالأمل في الصور الجميلة التي تنسجم مع أرواحهم وطيبتهم وأخلاقهم: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106، 107]

يا رب لقد ذكرت في كلماتك المقدسة تحكمك في عالم الصور، فتهب من تشاء ما تشاء منها، إما تنعيما وتفضلا، أو تمحيصا واختبارا، فقلت: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [الانفطار: 6 – 8]

وذكرت قدرتك المطلقة على ذلك، والتي تبدأ من عالم الأرحام، فقلت: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران: 6]

وذكرت قدرتك على تبديل الصور وتغييرها كيف تشاء، فقلت: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران: 6]

وذكرت أن كل ذلك من باب الاختبار لخلقك، حتى تميز الصادقين من الكاذبين، فقلت: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} [الإنسان: 28]

وكل ذلك يا رب .. ليعلم خلقك أن كل شيء بيدك.. وأن خزائن لطفك تحوي كل ما ترغب فيه نفوسهم.. ليرجعوا لك، ويعبدوك، ويتركوا الأهواء التي تعلقوا بها من دونك.

يا رب.. لقد شاءت حكمتك أن ترسل من يغير على الجمال فيحوله إلى دمامة.. ويغير على الأزهار، فتذبل.. وعلى النسيم العليل، فيتحول إلى أعاصير قاسية.. وعلى البحر اللطيف، فيتحول إلى أمواج عاتية.. ليعلم الخلق أن كل شيء بيدك..

وليتعلموا إلا يسكنوا لغيرك.. فالأشياء بيدك، وأنت الذي تصرفها كيف تشاء.

يا رب .. وأعوذ بك أن أكون كذلك الذي قيل فيه: (رب وجه صبيح، ولسان فصيح، غدا بين أطباق النار يصيح)، فكم من عبادك من غرتهم صورهم، فراحوا يعبدونها، ويتفنون في تزيينها إلى أن وجدوا أنفسهم خالين من كل فضيلة، ممتلئين بكل رذيلة.

يا رب.. فاملأ قلبي بحب الجمال الحقيقي الذي هو جمالك.. وهب بصري من الصفاء حتى لا تغره صور القوالب، ولا تجذبه تقاسيمها، ولا تفنيه عن نفسه ملامحها.. بل اجعلني أرى ببصيرتي عالم الروح، لأميز بين الجمال الحقيقي الذي هو هبتك، والجمال الشكلي الذي هو اختبارك.. إنك أنت أرحم الراحمين.

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ((الانفطار:7 ـ 8)

وقال عن مشيئته المرتبطة بتصوير الجنين: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ((آل عمران:6)

وقال يمن على عباده بقوة أجسامهم وسلامتها: (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ((الانسان:28)، وقد ورد عن ابن عباس في تفسيرها: (لغيرنا محاسنهم إلى أسمج الصور وأقبحها)

ويذكر القرآن تنوع الكائنات في طريقة مشيها، ويستدل بذلك على طلاقة مشيئته، قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ((النور:45)

وينبه القرآن إلى النظر في أطوار الخلق التي يمر بها الإنسان ليعاين طلاق المشيئة الإلهية في التصوير، قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (الروم:54)

ويذكر القرآن الصور المختلفة والطاقات المختلفة الموهوبة للملائكة ـ عليهم السلام ـ وينبه بذلك إلى طلاقة مشيئته، قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ((فاطر:1)

البارئ

قلنا: عرفنا الاسم الثاني .. فحدثنا عن الاسم الثالث.

قال: الاسم الثالث هو البارئ ..

قلنا: فما معنى هذا الاسم؟ .. ومادلالته التي تفرقه عن سائر الأسماء؟

قال: هذا الاسم يدل على معان متعددة فسرها لنا الجواد:

منها دلالته على أن الله تعالى خال من أي نقص وعيب وتهمة ومذمة، وقد سبق لأخينا (فريدريك ماكس مولر) أن فسر لنا ذلك عند تعريفنا باسم الله (القدوس)

ومنها دلالته على أن أفعال الله خالية من كل عيب، بل كلها في منتهى الكمال .. لقد ذكر لنا الجواد عند بيانه لهذا المعنى مقولة مهمة للغزالي لا أزال أذكرها جيدا .. قال فيها: (لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم، وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم، وأفاض عليهم من الحكمة ما لا منتهى لوصفها، ثم زاد مثل عدد جميعهم علماً وحكمة وعقلاً، ثم كشف لهم عن عواقب الأمور وأطلعهم على أسرار الملكوت وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر، ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم، لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والتظاهر عليه أن يزاد فيما دبر الله سبحانه الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة، ولا أن ينقص منها جناح بعوضة، ولا أن يرفع منها ذرة

ولا أن يخفض منها ذرة، ولا أن يدفع مرض أو عيب أو نقص أو فقر أو ضر عمن بلي به، ولا أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم الله به عليه، بل كل ما خلقه الله تعالى من السموات والأرض – إن رجعوا فيها البصر وطولوا فيها النظر – ما رأوا فيها من تفاوت ولا فطور، وكل ما قسم الله تعالى بين عباده من رزق وأجل وسرور وحزن وعجز وقدرة وإيمان وكفر وطاعة ومعصية، فكله عدل محض لا جور فيه، وحق صرف لا ظلم فيه، بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي، وكما ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي، وليس في الإمكان أصلاً أحسن منه ولا أتم ولا أكمل، ولو كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله لكان بخلاً يناقض الجود وظلماً يناقض العدل، ولو لم يكن قادراً لكان عجزاً يناقض الإلهية، بل كل فقر وضر في الدنيا فهو نقصان من الدنيا وزيادة في الآخرة، وكل نقص في الآخرة بالإضافة إلى شخص فهو نعيم بالإضافة إلى غيره، إذ لولا الليل لما عرف قدر النهار، ولولا المرض لما تنعم الأصحاء بالصحة، .. وما لم يخلق الناقص لا يعرف الكامل، ولولا خلق البهائم لما ظهر شرف الإنس، فإن الكمال والنقص يظهر بالإضافة، فمقتضى الجود والحكمة خلق الكامل والناقص جميعاً) (1)

__________

(1) إحياء علوم الدين، بتصرف

ـ المصور

قلنا: عرفنا الاسم الثالث .. فحدثنا عن الاسم الرابع.

قال: الاسم الرابع هو المصور ..

قلنا: فما يعني هذا الاسم؟

قال: كما أن الإبداع لا يكون إلا بإحداث ما لم يكن .. فإن من الإبداع – كذلك – لا يكمل إلا بتصوير ما أبدع علي هيئة خاصة تميزه عما سواه ..

لقد ذكر لنا الجواد أن النصوص المقدسة عبرت عن هذا المعنى باسم من أسماء الله الحسنى هو (المصور) .. وقد أخبرنا كذلك أنه ورد فيها الدلالة على أن الله هو مبدع جميع ما نراه من صور الكائنات وهيئاتها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *