الظاهر والباطن

الظاهر والباطن

إلهي.. أيها الظاهر والباطن.. يا من ظهر في كل شيء، ولكل شيء، ولم يحجبه أي شيء.. وبطن في ظهوره عن كل شيء، فلا تدركه الأبصار، ولا الأوهام، ولا العقول.. فهو لا يزال في غيبه المطلق محجوبا عن الإدراك والإحاطة، ولولا أسماؤه الحسنى ما عرفناه، ولا استدللنا عليه.

يا رب.. لقد تأملت في المعاني التي يحملها هذا الاسمان المقدسان من أسمائك، فامتلأت بمشاعر، جميلة لا يمكن وصفها..

فأنت يا رب أقمت لنا بظهورك بأسمائك الحسنى، وتجلياتك العظمى كل الحجج التي تدل عليك، والتي لا يحجب عنها إلا الغافلون.. ففي كل قطرة مطر، وموجة بحر، ونسمة هواء رسالة من الرسائل الدالة عليك، وحرف من الحروف التي تصفك، وتصف عظمتك، وقد قلت مشيرا إلى ذلك في كلماتك المقدسة: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الروم: 50]

وقلت مشيرا إلى إمساكك للسموات والأرض أن تزولا: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]

وقلت مشيرا إلى آياتك الكثيرة الدالة عليك، والتي لا نهاية لها، ولا لدلالاتها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة: 164]

وأمرت أولئك المحجوبين عنك، وعن ظهورك، أن ينظروا إلى الأشياء بعين البصيرة، لا بعين البصر وحده، للسير منها إليك، والاستدلال بها عليك، فقلت: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 – 20]

وهكذا يا رب.. كانت كل خلية من خلايا الحياة.. وكل ذرة من ذرات الكون دليلا يدل عليك، ومعرّفا يعرف بك وبأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا.. حتى صار الكون كله مرآة لجمالك، وظلا لعظمتك.. وحتى صرت في عيون العارفين معروفا يرونك في الأشياء قبلها وبعدها ومعها.. بل إنهم من شدة انبهارهم بعظمتك حجبوا عن الأشياء بك.. وفنوا عنها بالاستغراق في جمالك.. فصاروا لا يرونها، بل يرونك، وهل يمكن أن يُرى معك غيرك؟

لكنك مع كل ذلك الظهور لا تزال باطنا محتجبا في سرادقات غيبك.. فأنى للعقول أن تحيط بك، أو تدركك، وأنت الغيب المطلق الذي لا حدود لإطلاقه.. وهل يمكن لمن رأى قطرة من ماء البحر أن يزعم أنه رأى البحر.. أنى ذلك.. وأنت في غيبك المطلق بحار لا نهاية لحدودها، ولا منتهى لعظمتها.

فلذلك كذب من زعم أنه يعرفك.. كما كذب من زعم أنه يجهلك..

يا رب.. لقد توهم بعض الغافلين أن ذلك تناقض لم تستوعبه عقولهم.. ولو أنهم رجعوا لما يعرفونه من أشياء لأخرجوا عقولهم من تناقضها..

فهل يمكن لمن قضى عمره كله في الحساب والإحصاء أن يتوهم أنه قد أحاط بعالم الأعداد، أو أنه وصل إلى منتهاها، أو أنه أدرك نصفها أو ربعها أو عشرها..

نعم يمكنه أن يذكر أنه عرف عالم الأعداد.. ولكن لا يمكنه أبدا أن يذكر أنه أحاط بمعرفتها.. فهي مطلقة لا نهاية لها.. ويمكن لأي صبي صغير أن يضيف لما جمعه منها طيلة حياته أضعافا مضاعفة.

لقد أشرت يا رب في كلماتك المقدسة إلى هذا، فقلت: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]

فإن كنا يا رب عاجزين عن عد الأعداد، أو إحصاء النعم، وهي خلق من خلقك، فكيف يمكننا أن نعد أسماءك، أو نحيط علما بك..

ولذلك يا رب كنت ظاهرا في بطونك.. وباطنا في ظهورك..

فأنت بكرمك أبرزت لنا من جميل أسمائك ما نستدل به عليك، بل ما نحجب به عن غيرك.. وأبرزت لنا في نفس الوقت ما يدل على غيبك المطلق، وعدم إمكانية الإحاطة بك، وكيف يحاط بما لا نهاية لكماله وجماله وجلاله وعظمته.

فأسألك يا رب.. أيها الظاهر الباطن.. أن ترزقنا من جميل ألطافك ما تزين به ظواهرنا وبواطننا.. حتى يكونا جميعا مرآة لتجلي جمال رحمتك ولطفك وكرمك..

ونستعيذ بك يا رب من كل الذنوب الظاهرة والباطنة التي تحجبنا عنك.. فجمالك العظيم ممتلئ بالطهارة، لا يراه من دنس ظاهره أو باطنه.

وأسألك يا رب أن تجعل ما برز منا في الظاهر من جمال لا يساوي شيئا أمام ما خفي في الباطن منه، حتى يكون الباطن ممدا للظاهر بالمدد الذي لا ينقطع.

وأعوذ بك يا رب أن أكون كأولئك المنافقين الذين اجتهدوا في تزيين ظواهرهم، فحجبوا بها عن بواطنهم، وسقطوا في الدرك الأسفل من النار لكذبهم على أنفسهم، وخداعهم لخلقك.

يا رب.. فطهر باطني وظاهري.. واملأهما بأسرار الجمال والكمال، وغذهما بتلك القيم النبيلة التي أنزلتها في كلماتك المقدسة.. حتى تكون حركاتي وسكناتي موافقة لحركات وسكنات أنبيائك وأوليائك الذين أمرتنا بالاقتداء بهم، والسير على طريقهم.

يا رب.. ونسألك أن تهبنا من رزق الظاهر والباطن ما يملؤنا بالسعادة التي لا تكدر.. فقد رأيت من الناس من أغار باطنه على ظاهره، فامتلأ بالشقاء، ولم يستطع كل ذلك النعيم الذي أنعمت به على ظاهره أن يخلصه من الكآبة والإحباط والتشاؤم الذي امتلأ به باطنه.

يا رب.. ونسألك أن تكشف لنا من لطيف فضلك ما نعرف به نعمك ظاهرها وباطنها.. فقد رأيت من الخلق من حُجب عن نعمك الباطنة التي وهبتها له، بالظاهر الذي يعيش فيه، فتوهم أنك مقصر في الإحسان إليه، مع أنه يعيش في بحار فضلك التي لم يشاهدها بسبب عشاه وعماه عن رؤية ما أودعت في باطنه من النعم التي لا حدود لها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *