رب العالمين

رب العالمين

إلهي.. يا من وصفت نفسك في كلماتك المقدسة، فقلت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وقلت: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54]

لقد رحت أنظر في كل شيء، وأقرؤه بمنظار كلماتك المقدسة، فامتلأت بمعارف عظيمة جعلتني أرى نفسي والكون وكل العالمين بصورة أخرى غير تلك الصورة التي رسمها لي كل أولئك المفكرين والفلاسفة الذين انطلقوا من وحي عقولهم، المختلط بأهوائهم ودنسهم، لا من وحيك المقدس الممتلئ بالطهارة.

لقد كنت أرى الأشياء ـ حين كنت تابعا لهم ـ مفرقة مشتتة.. لكل جهة منها كونها الخاص بها.. والذي لا علاقة له بسائر الأكوان.. لكني بعد أن عرفت أنك رب العالمين صرت أرى الكون كله واحدا متوجها إليك.. قد تختلف أسماؤه، وأصناف أفراده، وأنواع عوالمه، لكنه مثل تلك الروافد التي تتجمع من سحابة واحدة، لتصب في بحر واحد.

لقد كنت أرى الكون تائها في غابة الزمان والمكان المحدودين، وأنه سيأتي اليوم الذي تلتهم فيه سباع الفناء كل ذلك، ليتحول كل شيء إلى ظلام مطبق.. لكني بعد أن عرفت أنك رب العالمين علمت أنك ما خلقت هذا الكون لتبيده وتزيله وتفنيه، وإنما خلقته لترفعه وتربيه وتوجهه إلى الكمال الممكن له..

لقد علمت من قراءتي لكلماتك المقدسة الحاوية لحقائق الوجود أنك ـ يا رب ـ ما خلقت الكون لتزج به في الظلمات، وإنما خلقته لتخرجه من الظلمات.. ابتداء من ظلمات العدم، وانتهاء بظلمات الضلالة..

لقد قلت في كلماتك المقدسة تشير إلى ذلك: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]

ولذلك أرسلت رسلك، وأنزلت كلماتك عليهم لتؤدي دورها في تربية خلقك، وتعريفهم بك، حتى يخرجوا من ظلمات الأوهام إلى نور الحقائق..

لقد قلت في كلماتك المقدسة تشير إلى ذلك: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [الحديد: 9]

يا رب.. ولم تكتف ربانيتك لخلقك بذلك.. بل جعلت لهم من السمع والأبصار والعقول وكل أدوات الإدراك ما يمكن أن يكون نبراسا يدلهم على الحقائق، ويعينهم على السير في سبيلها..

لقد قلت تشير إلى ذلك: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]

فلذلك يستحيل على من يُعمل مداركه، أو يخلي بينها وبين أداء وظائفها، أن يجهلك، أو يجهل القيم التي أمرت عبادك بأن يختاروها، ليترقوا من خلال اختيارهم لها.

ولم تكتف ربانيتك بذلك.. بل إنك يا رب.. وضعت في فِطر خلقك ما يدلهم على الحق، ويجعلهم يشعرون به من غير حاجة لبراهين أو أدلة.. وكيف يحتاجون إلى ذلك، وهم قد سمعوا نداءك لهم، وأنت تعرفهم بنفسك..

لقد قلت في كلماتك المقدسة تشير إلى ذلك: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]

ولم تكتف ربانيتك بذلك.. بل إنك نصبت الدلائل في كل شيء.. ووضعت الأعلام الهادية إليك وإلى حقائق الوجود وقيمه النبيلة في كل محل.. حتى يخرج الخلق بملء إرادتهم من ظلمات أهوائهم إلى أنوارك.. وحتى يقوموا هم بتصفيد شياطينهم، بعد أن يختاروك أنت.. ويختاروا معك عالم الأنوار التي لا تنطفئ أبدا.

يا رب.. وقد كان من مقتضيات ربوبيتك لعبادك أن جعلت لهم دار للجزاء.. لينال كل واحد منهم جزاءه الذي اختاره لنفسه في دار التكليف.. وكنت رحيما بهم، عادلا معهم، فلم تنزل في دار كرامتك إلا من كان أهلا لها.. ولم تنزل في دار تأديبك إلا من رفض الالتزام بقيمك التي بنيت عليها الكون، وأسست عليها الحياة.

يا رب.. وأنت في كل ذلك لا تزال رب العالمين.. ترقي أهل الجنة، وتربيهم، لتخرج منهم كل ما يصرفهم عنك، ولو كان من نعيم الجنة.. وتربي أهل الجحيم، وتريهم فساد اختياراتهم، حتى يكون ذلك سببا في خروجهم من الظلمات إلى النور.. فإن خرجوا منها استحقوا رحمتك، كما استحقها المؤمنون أول مرة.

ولذلك كانت الحياة كلها.. أولاها وأخراها.. مدرسة تربوية تشرف عليها.. ليترقى الخلائق إلى العوالم المقدسة التي هيأتها لهم.. ليسعدوا باللقاء الأجمل.. والمعرفة الأعظم.. والمشاعر التي لا يمكن وصفها.

يا رب.. فاختر لنا من الطرق أقصرها.. ومن المعارج أقربها.. حتى نصل إليك من غير المرور بتلك المعاناة التي يمر بها الجاحدون المقصرون الذين استسلموا لعقولهم وأهوائهم، ولم يستسلموا لك، ولا لرسلك، ولا لكلماتك المقدسة.

يا رب.. وطهرني من رؤية نفسي، فأنت تعلم أنها حجابي الأعظم الذي يحول بيني وبينك.. فاجعلني أقطعها، لأصل إليك من غير معاناة.. ولتصبح نفسي تلك الراضية المرضية.. المسالمة المطمئنة.. التي لا تختار مع اختيارك، ولا ترضى بغير ما يرضيك.

يا رب.. اجعل نفسي كنفس إبراهيم الذي سلم لوحيك.. وكنفس إسماعيل الذي سلم رقبته من أجلك..

يا رب.. واجعلني كذلك التلميذ المطواع لأستاذه، لا يجادله، ولا يماريه، ولا يرتاب في توجيهه وتعليمه.. حتى أكون من المتخرجين المتفوقين في مدرستك.. والذين لا ينالون جوائز فضلك فقط.. وإنما ينالون معها جوائز رضوانك وتقريبك ومحبتك، وهي أغلى الجوائز وأسناها وأرفعها.

يا رب العالمين.. فاهدنا إليك، ودلنا عليك، ويسر على نفسي التخلي عن أهوائها في سبيلك، حتى تصير حياتي ومماتي كلها لك.. وحتى أترقى في مدارج الكمال التي هيأت لها أنبياءك وأولياءك والصالحين من عبادك.. فأنعمت عليهم بكل ألوان فضلك.. فألحقني بهم، واجعلني معهم، وربني ورقني في مدرستهم، حتى أحظى بقبولك ولقائك وقربك.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *