الكبير المتعال

إلهي.. أيها الكبير المتعال.. يا صاحب الوجود الأزلي الأبدي الدائم.. يا من تنزهت عن كل نقص، وتقدست عن كل ضعف، وتعاليت عن كل ما لا يليق بجلالك وجمالك وكبريائك.
لقد رحت أبحث في كل شيء خلقته، فوجدته صغيرا بجنبك.. بل لا يساوي شيئا.. بل هو صفر محض.. أو وهم خالص.. فكل شيء إذا ما قورن بك، ووضع أمامك تحول إلى عدم ووهم وسراب.
وكيف لا يتحول إلى ذلك، وهو لا يملك إلا وجودك.. فلولا وجودك لم يكن شيئا مذكورا.. ولولا إمدادك له في كل نفس بالوجود لعفى أثره، وانطفى نوره، ولم يبق له حقيقة ولا اسم ولا رسم.
فوجود كل شيء ـ يا رب ـ من وجودك.. وكمال كل شيء ذرة من محيطات كمالك.. وجماله ذرة في بحر جمالك..
فهنيئا لمن عرف أنك أنت الأكبر.. وأن من انتسب إليك فقط هو الذي يحق له أن يفرح ويفخر.. لأنه ينتسب إلى المتعال الأكبر.. ذلك الذي لا يعرف وجوده العدم، ولا يعرف كماله النقص، ولا يعرف عطاؤه البخل، ولا يعرف جماله الدمامة.. فكما أنك يا رب الأكبر.. فكل صفاتك الأكبر..
فأنت ـ يا رب ـ الأعلم الذي لا يضاهيك أحد في علمك.. وكيف يضاهيك وكل علوم الخلائق ذرة من محيطات علومك، وكلها منك، وأنت الذي ألهمتهم إياها، ولولاك لكانوا جهلا محضا..
لقد ذكرت ذلك يا رب في كلماتك المقدسة فقلت: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]
فويل لأولئك الذين حُجبوا عنك بتلك الحروف التي تعلموها في مدرستك، ولولا تعليمك لم يتعلموا، ولولا قدراتك التي وهبتهم ما استطاعوا أن يفهموا شيئا.. لكن فرحهم بما حصلوه من العلم، وتكبرهم عليك طردهم من مدرستك، وحجبهم أن يتعلموا العلوم الحقيقية منك، فاكتفوا من تعليمهم بظاهر الحياة الدنيا، وبالغفلة عنك، وقد قلت تصف علمهم: { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]
يا رب.. فأعوذ بك أن أزهو بما ألهمتني من علومك، أو أفرح بها دونك.. فاحتفظ بي تلميذا في مدرستك، وعلمني علوم الظاهر والباطن، حتى أعرف الحقائق منك، فأنت المعلم الأكبر الذي من لم يتعلم في مدرسته ظل جاهلا، ولو درس عند كل علماء الدنيا، وفي كل جامعاتها.
وكما أنك الأعلم يا رب.. فأنت الأقوى الذي يضعف أمامه كل شيء.. فأنت أقوى من كل أعدائي وأعداء المستضعفين، وأنت القادر على أن تبيد خضراءهم بطرفة عين.. لكنك تمهلهم، ولا تهملهم.
تمهلهم لعلهم يتوبوا ويتواضعوا ويرجعوا إليك، ويعرفوا أنك أنت الأكبر، وأنك أنت الأقوى.. وتمهلهم حتى تميز بين من يكبرونك ومن يكبرونهم.. ومن يعظمونك ومن يعظمونهم..
فاجعلني أراهم كما أرى الذباب والبعوض في جنب قوتك، واحفظ قلبي من أن يرتجف هيبة لهم، وكيف يرتجف، وهو مستند إلى ركنك الشديد الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
إلهي.. وأنت الأرحم والأكرم والألطف.. أنت الذي لو اجتمع حنان كل الأمهات، ورحمة كل الآباء، ولطف كل اللطفاء لما عدل نقطة من بحر رحمتك وكرمك ولطفك.
إلهي.. وأنت الأقدر الذي لا يعجزه شيء.. ولو أن قدرات كل الخلائق اجتمعت لما عدلت ذرة من قدرتك.. وكيف تعدل ذلك، وقدرتهم من قدرتك، ووجودهم من وجودك.
إلهي.. وأنت الأجمل الذي لو اجتمع كل جمال الكون لما عدل ذرة من بحر جمالك.. وكيف يكون له ذلك، وجماله من جمالك، بل إن كل شيء مرآة لبعض بعض جمالك الذي لا حدود له.
إلهي.. وأنت المبدع.. ولو اجتمع كل فناني الدنيا والآخرة لما بلغوا ذرة من بحر ذوقك الرفيع، وفنك البديع، وتصميمك الرائع.. وكيف يقارنون بك، وإبداعهم من إبداعك، وفنهم ذرة في بحر فنك.. بل فنهم منك وبك.
إلهي.. فهب لي من جميل فضلك ما يرفعني عن السفاسف، حتى ترتفع همتي إليك.. فلا يليق بمن انتسب للأكبر أن يكون أصغر.. ولا يليق لمن حضي بالشرب من كأس جمالك أن يكون صاحب همة دنية، أو نفس غير أبية.
إلهي.. أعوذ بك أن تحجبني بأولئك الصغار الذين لا يساوون أمام جلالك شيئا.. فأنزل بذلك عن الكمال الذي هيأته لي.. والكبر الذي أتحته لي.. ذلك الكبر الذي لم يُنغص بالكبرياء، ولم يُعكر بالدناءة، وإنما زين بالتواضع والعبودية والذلة.
إلهي.. وأسألك وأنت الكبير المتعال، أن تنزهني من كل قصور يحول بيني وبينك، ومن كل كمال وهمي أفرح به، ثم أحزن لإبعاده لي عنك.
يا رب.. فاجعل همتي كبيرة عالية حتى لا تتطلع إلا إليك.. فأنت أرحم الراحمين، وأنت الكبير المتعال.