الصمد الودود

الصمد الودود

إلهي.. أيها الصمد الودود.. الذي يفيض عطاياه على كل الوجود.. بالحدود وفوق الحدود..

أنت موئل الطالبين، ومقصد المستغيثين، وملجأ المتحيرين، ومنبع العطاشى الظامئين..

أنت يا رب من ترتفع له الأيادي بالسؤال، وتضج له الأصوات بالدعاء، فيسمعها جميعا، ويلبيها جميعا..

أنت يا رب صاحب الجود العظيم.. والعطاء الكريم.. والقدرة المطلقة.. والإرادة النافذة.. والعلم الواسع.. والرحمة التي وسعت كل شيء.. ولذلك لا تضيق بالسائلين، بل تفرح بهم، بل ترسل لهم من أنواع الرسل ما يستحثهم إليك، ويدعوهم لدعائك.

يا رب.. ماذا عساي أقول لك، وأنت ترى فقري وفاقتي وحاجتي التي لا يلبيها إلا غناك المطلق.. فأغدق علي من كرمك ما يسد حاجاتي، ويرفع فاقاتي، ويجعلني عبدا لك وحدك.

يا رب.. وأنت ترى جسدي الضعيف المتهالك.. وأنت الطبيب الشافي الذي يملك كل أنواع الدواء، ويشفي جميع أنواع العلل.. فاشفني وعافني وقوني.. حتى أتمكن من أداء ما كلفتني به من وظائف، وأنعم بالحياة الطيبة التي وعدت بها المؤمنين بك.

يا رب.. وأنت ترى جهلي، فعلمني.. وأنت ترى كسلني، فنشطني.. وأنت ترى همتي الدنية فارفعها.. وارفعني معها إليك حتى تكون مقصودي الأعظم الذي يهفو له قلبي، وتشتاق له نفسي، وتسكن إليه روحي.

يا رب.. لقد دعوتنا في كلماتك المقدسة لأن نكثر من التضرع إليك، والاستغاثة بك، ووعدتنا بالإجابة، فقلت: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وها نحن ندعوك يا رب كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا.

يا رب.. لقد ذكرت في كلماتك المقدسة أولئك الذين تكبروا أن يرفعوا أيديهم إليك مع أن عندك الحل لجميع ما نزل بهم من أنواع البلاء، فقلت: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42، 43]، ونحن نعوذ بك يا رب أن نكون مثلهم، فتقسو قلوبنا بتركنا لك، ورغبتنا عنك.

يا رب.. فاجعلنا ندعوك في كل أحوالنا، حتى في طلب ملح بيتنا، فأنت رب كل شيء، ولولاك لم يصل شيء لشيء.

يا رب.. أيها الصمد الأعظم نعوذ بك أن نكون كأولئك الذين قصرت أنظارهم، وعميت بصائرهم، فانشغلوا بالدعاء لدنياهم، وأهملوا آخرتهم.. أولئك الذين ذكرتهم فقلت: { مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200]، وذكرت غيرهم من الصالحين فقلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 201، 202]

فنسألك يا رب.. يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أن تنزلنا في منازل فضلك وجودك مع أنبيائك وأوليائك حتى لا نرى من أهوال الآخرة ما يراه الغافلون الجاحدون.

يا رب.. وإن توفيتنا في الآجال التي حددتها لنا، وبعد أدائنا لكل ما كلفتنا به من تكاليف، فانقلنا بجودك العظيم من الدنيا مباشرة إلى فيض فضلك وجودك وجنانك الواسعة التي نقلت إليها أولياءك؛ فلم يذوقوا من الآلام، ولم يروا من الهوان ما رآه العصاة الغافلون المستكبرون.

يا رب.. أنت الواسع الذي لا يضيق بفضلك شيء.. وأنت الكريم الذي يتسع جودك لكل السائلين.. وأنا عبدك الذي يبسط إليك يديه بكل أنواع السؤال من غير أن يعتريه ذلك الحياء أو تلك الهيبة التي تصيبه عند سؤال غيرك..

وكيف تصيبني الهيبة أو الحياء، وأنا أقصدك يا رب.. وأنت الجواد الأعظم، والصمد المطلق الذي لا يرد من تضرع إليه، ولا يصد من استغاث به.

يا رب.. وكما حركت قلبي ولساني لسؤالك.. فعلمني الأدب معك حتى لا يجرني البسط والأنس الذي وفرته لي إلى عدم توقيرك وتبجيلك وتقديسك.

فأنت تعلم يا رب.. أن سؤالي لك ولو في أبسط الشؤون نابع من تعظيمي لحضرتك، وتبجيلي لذاتك، واعتقادي في أسمائك الحسنى، وصفاتك العليا.. فأنا أعلم أن كل شيء منك وبك ولك.. ولذلك أرى المغبون من يمد يده إلى غيرك، وهل هناك أكرم منك حتى تمد الأيادي له؟

يا رب.. أيها الصمد الودود الذي يعطينا من فضله بمحبة ورحمة وحنان، فلذلك لا يضيق بمن أعطاهم، بل يضيف إلى عطائهم الحسي عطاءه المعنوي، وينقلهم من أنفسهم إليه، ومن الحاجات التي طلبوها منه إلى أعظم نعمة في الوجود، وهي نعمة القرب منه والأنس به والمحبة له.

يا رب.. فنسألك أن تكون مقصودنا ومحبوبنا وأنيسنا الأعظم حتى لا ننشغل بما أعطيتنا عنك، فتكون عطاياك حجابا لنا دونك.

يا رب.. نسألك أن تكون أنت الصمد الذي نقصده.. وأنت الحاجة التي نطلبها.. فمن وجدك وجد كل شيء، ومن فقدك فقد كل شيء.. وما الذي وجد من فقدك.. وما الذي فقد من وجدك؟

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *