السميع البصير

السميع البصير

إلهي.. أيها السميع البصير.. المدرك لكل المدركات.. ما كثف منها، وما لطف.. وما قرب منها، وما بعد.. وما انفتح منها وما انغلق.. فلا يغيب عنك شيء في الأرض ولا في السماء.. ولا في الملك، ولا في الملكوت.. ولا في الغيب، ولا في الشهادة.. بل كل شيء عندك شهادة.. وكل غيب عندك حضور.

إلهي.. إنك ما ذكرت لنا في كلماتك المقدسة السمع والبصر لتحصر قدراتك فيهما، فأنت أعظم من أن تنحصر مداركك فيما تنحصر فيه مدارك خلقك.. فأنت الذي تدرك كل شيء، ومن كل الوجوه، وبكل المعاني.

وأنت الذي لا تحتاج للأعضاء التي يحتاجها خلقك حتى يتحقق لهم الإدراك، فإدراكك بلا آلة.. وكيف تحتاج للآلة، وأنت الذي خلقتها، وخلقت كل شيء؟.. وكيف تحتاج إليها، وأنت الغني بذاتك عن غيرك؟.. وكيف تحتاج إليها، وأنت القدوس الذي تقدس عن كل الوسائط؟

وأنت يا رب.. تدرك كل شيء كما هو على حقيقته.. لا كما تفعل بنا مداركنا البسيطة التي تتأثر بضعفنا وعجزنا، فترى الأشياء بحسبها لا بحسب حقيقتها.

فلك الكمال يا رب في سمعك وبصرك، وما لا نعلمه من صفات إدراكك.. ولك القدوسية والتنزيه والتسبيح فيها.. فأنت الأكبر الأعظم الذي تنزه عن كل نقص، وتحلى بكل كمال.

يا رب.. فانظر إلينا بعين لطفك.. واستجب لدعواتنا بسمع كرمك.. حتى لا نفتقر إلى غيرك.. وكيف نفتقر إلى غيرك، وأنت ترى فقرنا، وتسمع تضرعنا.

يا رب.. واجعلنا كأوليائك الذين شغلوا بنظرك إليهم عن نظر الخلق.. فامتلأوا فرحا وسعادة ليقينهم برؤيتك لهم، وعلمهم بحضورك الدائم معهم.

يا رب.. واجعلنا من المخلَصين الصادقين الذين يشعرون برؤيتك لهم.. حتى لا نمزج مع رؤيتك رؤية غيرك، فنقع في الضلالة والشرك.. وهل يمكن لمن يعلم برؤية ربه له أن يبحث عن رؤية غيره.

يا رب.. واجعلنا من المستحين من رؤيتك لنا، فنتأدب أمامك، ولا نبيح لأنفسنا أن تترك الأدب وهي في حضرتك.. وتحت سمعك وبصرك.. وهما لا يغيبان عنا في كل الأحوال.

يا رب.. فطهرنا لنحظى برؤية الرضا، ونسعد بمشاهدتك لنا، ونحن نتقلب في رياض طاعتك، متنعمين برؤيتك لنا، ونحن نجثو بين يديك، ننهل من كرمك وفضلك وعبوديتك.

يا رب.. لقد قلت في كلمات المقدسة تخبرنا عنك: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [التوبة: 105]، فنسألك يا رب أن توفقنا لأن نكون في أحسن الأحوال حتى لا نقع في الفضيحة أمامك وأمام أنبيائك وأوليائك.. فلا معصوم إلا من عصمته.. ولا مخلَص إلا من خلصته.

يا رب.. لقد ذكرت في كلماتك المقدسة أنك ذرأت { لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا } [الأعراف: 179]

فنعوذ بك من أن يصيب العته قلوبنا، أو العمى أبصارنا، أو الصمم آذاننا، فلا ندرك الحقائق التي بثثتها في كونك، ونكون حينها { كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف: 179]

يا رب.. فاملأ أبصارنا بنور البصيرة حتى تطغى بصائرنا على أبصارنا، فنرى الملكوت في الملك.. ونرى الباطن في الظاهر.. ونرى اللطافة في الكثافة.. ونراك في كل شيء، فلا تغيب عنا في أي شيء.

يا رب.. واجعل سمعنا لك.. حتى لا نسمع شيئا إلا لنهتدي به إليك، ويكون حادينا إلى روضات أنسك.

يا رب.. وأسمعنا ما أسمعته أهلك وأولياءك الذين شغفوا بذلك النداء الذي لا يزال يرن في آذان قلوبهم عندما قلت مخاطبا لخلقك: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [الأعراف: 172]

يا رب.. واجعلنا نهتز طربا لسماع ذلك النداء المقدس الممتلئ بكل أنواع الجمال.. حتى نعيش في عالم الطرب والسرور الذي لا يغني عنه كل طرب الدنيا وسرورها.

يا رب.. واجعل كل شيء حادينا إليك.. حتى نسير إليك بأبصارنا وأسماعنا وكل مداركنا.. لنشكرك بها.. فلا شكر للنعمة أعظم من استعمالها للسير إليك.

يا رب.. ونعوذ بك أن تحجبنا بأبصارنا وأسماعنا.. فنلتفت لغيرك، ونقع في تلك الهوة السحيقة التي وقع فيها من عبد هواه.. وراح يسمع لغيرك، ويكتفي بالنظر لسواك.

يا رب.. فطهر أسماعنا وأبصارنا ومداركنا، واجعلها سلما يصلنا بك، وحبلا ممدودا منا إليك.. أو منك إلينا.. حتى لا نكون ضحايا لأهوائنا، وفرائس لشهواتنا.

يا رب.. واحفظ سمعنا وبصرنا وقوتنا أبدا ما أبقيتنا، واجعلها الوارث منا.. حتى نلقاك بها كما وضعتها فينا.. فقد أخبرتنا رسلك أنك ستحاسبنا عنها، وأن السعيد من حافظ عليها، وعلى فطرتها، ولم يدنسها بأنواع الرجس والأذى.

يا رب.. وكما تقدست مداركك عن الآلات.. فقدس مداركنا حتى يحصل لنا ما حصل للعارفين بك، أولئك الذين صارت قلوبهم كلها عيونا، كما عبر عنهم الشاعر بقوله:

قلوب العارفين لها عيون… ترى مالا يري للناظرين

و ألسنة بأسرار تناجي… تغيب عن الكرام الكاتبين

و أجنحة تطير بغير ريش… إلى ملكوت رب العالمينا

و ترتع في رياض القدس طرا… وتشرب من بحار العارفين

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *