الأول والآخر

الأول والآخر

إلهي.. أيها الأول والآخر..

أنت يا رب.. من يجثو الزمان بين يديك كما يجثو المكان وكل شيء عبدا خاضعا ذليلا، لا يملك من أمره شيئا.

يا من سبق الكل، ولولاه لم يكن شيء.. ومن لم يعرفه لم يعرف أي شيء.. فكل شيء ـ يا رب ـ مرتبط بك ابتداء وانتهاء.. أولا وآخرا.. أنت الذي تمده بالوجود.. ولولاك لم يكن موجودا.. وأنت الذي تمده بالبقاء.. ولولاك لالتهمه العدم، واحتوته الظلمات.. فعميت تلك العين التي ترى الأشياء، ثم لا تراك معها وقبلها وبعدها.

أنت يا رب ـ بأوليتك وآخريتك ـ سر كل الأشياء.. فلا يمكن معرفتها من دونك.. وهل يمكن أن نعرف طريقا من غير أن نعرف بدايته أو نهايته؟

أنت يا رب سر تلك اللمسات الجمالية المودعة في كل جميل.. فأنت الذي هيأت لها ذلك الجمال.. وأنت الذي وفرته لها.. وأنت الذي مسحتها به.. بل إن ذلك الجمال يا رب ما هو إلا قطرة من بحار جمالك التي تبدت للكائنات ليروك من خلال مرائي الأشياء.. فأنت يا رب أول الجمال.. وملك الجمال .. وآخر الجمال.. ولولاك لم نعرف الجمال.. ولم نسبح بحمده.

يا رب.. وأنت سر ذلك اللطف المودع في الأكوان.. فأنت أول اللطف وآخره.. وبك استقر.. ومن دونك لم يكن لطف.. ومن دونك كان كل شيء غليظا قاسيا متحجرا ممتلئا بالكثافة والعتامة والظلمات.

يا رب.. وأنت سر كل الحقائق، بك تبدأ، وإليك تنتهي.. ومن زعم أنه عرف الحقائق من دونك، فهو أجهل من الجهل.. لأنه لا حقيقة لشيء من دونك.. فكل الحسيات والمجردات.. وكل الملك والملكوت.. ملك لك.. أنت أوله وآخره.. ولولاك لم يكن شيئا مذكورا.

فكيف يجري عليك الزمان يا رب.. وأنت الذي خلقت الزمان.. وما الزمان إلا عبد من عبيدك سلطته على عبادك ليعرفوك، ويعظموك، وينزهوك، ويعرفوا الفرق بينهم وبينك.. فلا يمكن أن ينزهك أو يقدسك من يضعك في مقاييس العقول، وأوهام الخيال.

يا رب.. جهل من حدك بحدود الزمان والمكان والأوهام.. أو علم أن هناك من يشبهك.. أو أنك يمكن أن تشبه أحدا.. فأنت العظيم الأعظم.. القدوس الأكمل.. الذي لا حدود لقداسته ولا لكماله.

يا رب.. وكما تنزهت عن الزمان.. فنزهنا عنه.. واجعل بصائرنا تعيش في بحار الأزلية، غير مقيدة بالأوقات.. لتسجد قلوبنا لك سجدة أبدية لا تقوم بعدها أبدا.

يا رب.. أنت الذي نزهت أنبياءك وأولياءك عن تلك القيود.. فهامت أرواحهم في بحار أزليتك وأبديتك، وتخلصوا من كل تلك القيود التي تحول بينهم وبين الغرق في بحار الجمال المطلق، والكمال المطلق.

يا رب.. فكما نزهتهم فنزهنا.. وكما قدست أرواحهم فقدس أرواحنا.. فأنت تعلم أنه وإن قصرت خطانا عن بلوغ خطاهم إلا أن قلوبنا ممتلئة بمحبتهم وتقديسهم وتعظيمهم كما أمرتنا..

يا رب.. وكما خلقت الزمان لنا قيودا.. فقد خلقته لنا نعمة.. وقد قلت في كلماتك المقدسة تشير إلى ذلك: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]

فاجعلنا يا رب.. نبتهل كل لحظة من الزمان الذي وفرته لنا، حتى نغنم فيه بغنائم الأبد.. تلك الغنائم التي لا يمكن لأي عدو أن يسلبها منا.

يا رب.. أنت الذي بيدك ناصية الزمان تبارك فيما تشاء منه.. وقد جعلت ليلة القدر خيرا من ألف شهر.. فاجعل يا رب كل أيامنا وليالينا ليالي قدر مباركة نسعد فيها بغنائم الأزل والأبد.. لنرحل بها إليك.. ونمتطيها في سفرنا الأزلي إلى رحاب جمالك الذي لا حدود له.

يا رب.. وبارك لنا في أوقاتنا حتى تكون كلها لك.. وحتى لا تصيبنا تلك الحسرة التي تصيب المسوفين وأصحاب الأمل الطويل عندما يعاينون جميل فضلك، ويعاينون معه تقصيرهم وتسويفهم وتفريطهم.. إنك أنت أرحم الراحمين.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *