الآمر الناهي

الآمر الناهي

إلهي.. أيها الآمر الناهي الذي كلم عباده من غير حروف ولا أصوات.. ولا أدوات أو آلات.. ليبلغهم حقائق الوجود.. ويعرفهم بنفسه وبأنفسهم.. ويدلهم عليه وعليهم.. نصحا لهم وشفقة بهم، حتى يرتقوا من ذلك العالم البسيط الذي ولدوا عليه إلى عوالم الكمال المعدة لهم.

يا رب.. قد تأملت في كلماتك المقدسة التي تأمرنا فيها وتنهانا.. وتوصينا فيها وتعظنا.. فرأيت من جميل لطفك، وحسن بيانك، وفضل رحمتك ما زادني لك تعظيما، وزادني على شريعتك حرصا.

فأنت لم تأمرنا إلا بما يصلحنا، ويرفعنا، ويقدس أرواحنا لتصبح أهلا لمنازل السعادة التي وفرتها لنا.

وأنت لم تنهنا يا رب لتحرمنا من بعض المتاع الزائل، وإنما نهيتنا لتربينا وتؤدبنا وتصلح نفوسنا، لتصبح لائقة بدار الطيبين، تلك الدار التي لا يدخلها من في نفسه ذرة خبث.

يا رب.. لقد قارنت بين كلماتك المقدسة التي تأمرنا فيها وتنهانا بكل ما قالته البشرية فلاسفتها وحكماؤها ومفكروها وسياسيوها.. فوجدت الكل يراعي في أوامره ونواهيه حاجات دون حاجات.. ومطالب دون مطالب.. فيصلح أشياء، ويفسد أخرى.. ورأيت أوامرك ونواهيك وحدها من يصلح كل شيء، ولكل شيء.. ولكل الأزمان والبيئات.. ولكل الأحوال والأشخاص.

وكيف لا تكون كذلك.. وأنت الرب الخبير بعباده .. العليم بما ينفعهم وما يضرهم.. وقد قلت في كلماتك المقدسة تحدثنا عنك: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]

يا رب .. فأسألك أن أقف عند أوامرك ونواهيك.. لا أتجاوزها.. ولا أُعمل عقلي أو هواي معها.. وهل يمكن للممتلئ جهلا وغفلة أن يعقب على الذي لا حدود لعلمه، ولا نهاية لخبرته؟

يا رب .. وأسألك أن أؤدي ما أمرتني بأدائه.. وأنتهي عما نهيتني عنه.. وأنا في غاية الرضا والسرور، لأني أنفذ أوامرك أنت.. وهل يمكن لأحد أن يرغب عن أوامر محبوبه؟.. وهل يمكن لأحد أن يقترب مما يكره محبوبه؟

يا رب .. وأسألك أن أؤدي أوامرك بكل كياني.. بقلبي وجوارحي.. حتى لا أكون من الذين يعطونك ظاهرهم، ويعطوا لأهوائهم بواطنهم..

يا رب .. وأسألك أن توفقني لتراني حيث أمرت.. وتفقدني حيث نهيت.

يا رب .. وأسألك أن تجعلني من الدعاة إلى شريعتك، والحريصين عليها.. وأعوذ بك من أن أكون من المتهربين منها، أو المنفرين من الخضوع لها.

يا رب.. وأعوذ بك أن أكون كأولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان، وزين لهم أعمالهم، فراحوا يُعملون عقولهم المدنسة بدنس الأهواء، فيرفضون من شريعتك ما لا يتناسب مع أمزجتهم، ويقبلون منها ما يتناسب معها، أولئك الذين وصفتهم بقولك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [الحج: 11]

وأعوذ بك يا رب من أن أكون من أولئك الذين يقدمون بين يديك وبين يدي رسولك، أولئك الذين نهيتنا أن نكون مثلهم، فقلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]

وأعوذ بك يا رب من أن أكون من أولئك الذين يصيبهم الحرج لأوامرك أو أوامر رسولك، فيتسللون هاربين منها، متلاعبين بها.. أولئك الذين وصفتهم فقلت: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]

وأعوذ بك يا رب أن أجعل لنفسي الحق في الخيرة أمام أوامرك ونواهيك.. وكيف أفعل ذلك، وقد حذرتنا في كلماتك المقدسة من أن نشرك بك نفوسنا وأهواءنا، فقلت: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } [الأحزاب: 36]

يا رب .. واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك.. حتى أهتدي إلى أوامرك ونواهيك.. كما هي .. وكما أنزلتها على رسلك.. وقبل أن تغير عليها جحافل المبدلين والمغيرين..

وإن وقع يا رب أي خطأ مني في تنفيذ أوامرك أو الانتهاء عن نواهيك، فاغفر لي تقصيري وتفريطي، واهدني إلى التقوى، حتى لا أحوم حول حدودك، أو أتجاوز قدري بتجاوزها.

يا رب.. واجعلني أنفذ أوامرك كما ينفذها المحبون لك.. لا كما ينفذها الخائفون أو الطامعون.. فإني وإن طمعت في فضلك، فهو أعظم من أن يكون سببه أنا أو أعمالي.. بل سببه أنت وكرمك.

فأنى لأعمالي، ولو كثرت أن تستجلب لي فضلك.. وأنا لم أعملها إلا بفضلك.. ولولا توفيقك وهدايتك لما عملت شيئا.

يا رب.. فاجعل أوامرك ونواهيك لي أداة لسلوك سراطك المستقيم خلف أنبيائك وأوليائك الذين اصطفيتهم بكلماتك المقدسة، وجعلتهم منارات لهدايتك، وحجبت كل من تمرد عليهم، أو أراد أن يصل من غير أن يسلك سبيلهم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *