المعطي المانع

المعطي المانع

إلهي.. أيها المعطي المانع.. لا معطي لما منعت.. ولا مانع لما أعطيت، فمفاتيح كل شيء بيدك، وتصريف كل الأمور إليك.. فمرحى لمن تشرف بطلب عطائك.. وتعسا وذلة لمن أهان نفسه لغيرك.

يا رب.. لو أن كل الخلائق تحولوا إلى ألسنة سائلة، وسألوك من كل شيء، لأعطيت كل واحد منهم ما يشتهي من غير أن ينقص من بحر عطائك قطرة واحدة.

وكيف ينقص بحر عطائك، وأنت الذي تقول للشيء كن فيكون.. بل لا تحتاج لأن تقول له ذلك.. فيكفي أن تتوجه إرادتك النافذة، ومشيئتك الحاكمة، ليتحقق ما تريد، وفي أقل من لمح البصر.. فلا وجود للزمان معك، ولا وجود للمستحيل مع قدرتك وفضلك وعظمتك.

إلهي أنا أعلم أن التقتير الذي قد نراه في بعض شؤون حياتنا، ليس إلا من مقتضيات منعك الذي هو عطاء.. فأنت تمنعنا ما يضرنا، وبذلك يتحول المنع إلى عطاء ينفعنا..

أنت تمنعنا ـ يا رب ـ أن نلين للدنيا أو نسكن إليها أو نتثاقل إلى أهوائها.. ولذلك تقتر علينا من الرزق، أو تقدر علينا من الحاجة ما يعيدنا إليك.. وأنت الغني الذي من وصل إليه استغنى عن كل شيء.

إلهي.. أعوذ بك أن أنظر إلى ذات عطائك، فأُحجب عنك، وأصبح عبدا للعطاء لا للمعطي، وأنا لا أريد إلا المعطي، فالعطاء ينفذ، والمعطي باق..

إلهي لقد سألك عبدك الصالح موسى خبزا يأكله، وبيتا يؤويه، وقال لك بكل تواضع بعد أن أجهده الجوع والتعب: { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص: 24]، فأرسلت إليه بمجرد انتهاء قوله ذلك الطعام الطيب، والمسكن الآمن، والجوار الصالح، والأنيس الحنون.

يا رب.. وقد سألك عبدك الصالح سليمان أن تهبه ملكا.. فوهبته الملك على البشر والشياطين وجميع الأحياء.. ووهبته القدرة على فهم كلامها، والتعرف على مشاعرها، والتحكم فيها.. بل سخرت له فوق ذلك { الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } [ص: 36 – 38]، ثم فوضته بأن يفعل في ملكه ما يشاء، وقلت له: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39]، بل وعدته فوق ذلك بالمزيد الذي لا يساوي معه ما أعطيته شيئا، فقلت: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 40]

يا رب.. وقد سألك عبدك الصالح أيوب أن تهبه الصحة والعافية.. فلم تكتف بذلك.. بل أضفت إليها ما ذكرته في كتابك، فقلت:{وَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ص: 43]

يا رب.. وقد سألك عبدك الصالح زكريا الولد.. وبمجرد أن انتهى من طلبه سمع كلماتك الخالية من الحروف والأصوات تردد في آذان قلبه: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 7]

يا رب.. وقد سألك عبدك الصالح إبراهيم أن تهبه لسان صدق في العالمين، فأصبح مذكورا في كل الأزمنة، وكل الأمكنة، وكل الأديان.

يا رب.. ونحن عبيدك الضعفاء السائرون على خطى الأنبياء والأولياء.. فهب لنا من جميل عطائك ما وهبتهم، واكسنا بجميل فضلك ما كسوتهم.. وامنع عنا كل ما يؤذينا كما منعت عنهم كل ما يؤذيهم.

يا رب.. نسألك من كل خير سألوك منه.. ونعوذ بك من كل شر استعاذوا بك منه.. نسألك أن تعلمنا كما علمتهم، وأن تفهمنا كما فهمتهم.. ونسألك أن ترزقنا ذلك اليقين الذي رزقتهم، فقضوا حياتهم كلها في جوارك، متنعمين بصحبتك، متلهفين للقائك.

يا رب.. لقد ذكرت في كلماتك المقدسة أصناف عطائك، فقلت: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18، 19]

ثم أعلمتك بسننك في ذلك، فقلت: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]

ونحن نعوذ بك يا رب من أن نكون من ذلك الصنف الذي لم يرد إلا العاجلة، وضحى بحياته الأبدية من أجلها.. ذلك الذي وصفته في كتابك، فقلت: {مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } [البقرة: 200]

بل نسألك أن نكون كذلك الذي علم أن لك الملك في الدارين، وأن الذي يقصدك لا يرجع خائبا.. فلذلك طلب منك الدنيا والآخرة، ذلك الذي وصفته فقلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]

يا رب فهب لنا الدارين، ولا تشغلنا فيهما عنك.. بل اجعل ما تهبنا من فضلك، وما ترزقنا من عطائك معارج نمتطيها لنرحل بها إليك..

يا رب نسألك أن تجعل نعمك علينا كما جعلتها على أنبيائك وأوليائك الذين لم تبطرهم النعم، ولم يستكبروا بها، ولم يفرحوا ذلك الفرح الكاذب، بل فرحوا بك، وبفضلك، كما قلت لهم، وكما علمتهم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]

يا رب.. وأسألك أن تحفظ لي ما أعطيتنيه بحسن ثنائي عليك، وشكري لك.. فقد أخبرتنا في كلماتك المقدسة أن الشكر صمام النعم وحافظها..

ونسألك يا رب أن تعلمنا كيف نثني عليك، وكيف نشكرك ونمجدك، وكيف نستعمل ما أنعمت به علينا في سبيلك، وابتغاء مرضاتك.. إنك أنت أكرم الأكرمين.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *